[أصالة الاشتغال: تنبيهات الأقلّ والأكثر]
[التنبيه الثاني: نسيان الجزء أو الشرط]
قال صاحب الكفاية: «الثاني أنه لا يخفى أن الأصل فيما إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته في حال نسيانه عقلاً ونقلاً ما ذكر في الشك في أصل الجزئية أو الشرطية... إلخ».
هذا هو التنبيه الثاني، وحاصله: إنّه إذا ثبت كون شيء جزءاً للمأمور به في الجملة، ودار الأمر بين كون الجزئية مطلقة ليبطل العمل بفقدانه ولو في حال النسيان، أو مختصّة بحال الذكر ليختصّ البطلان بتركه عمداً.
وبعبارة أخرى: لو شكّ في ركنية جزء للعمل، فهل الأصل يقتضي الركنية، فيبطل العمل بالاخلال به أو بزيادته ولو سهواً أم لا؟
وأمّا الكلام عن الشروط، فالكلام فيها كالكلام في الجزء طابق النعل بالنعل، كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى.
ثم إنّه قبل الشروع في البحث ينبغي تقديم مقدمة: وهي أنّ الركن وإن لم يكن له ذكر في الأخبار، وإنّما هو مذكور في كلمات الفقهاء، إلاّ أنّ المراد به على ما يظهر، هو ما أوجب الاخلال به سهواً بطلان العمل من دون أن توجب زيادته ذلك.
وذكر بعضهم أنّ الجزء الركني، هو ما أوجب كلّ من الاخلال به وزيادته سهواً بطلان العمل.
وقد حققنا هذه المسألة في مبحث الفقه في الصلاة وبيّنا ماذا تقتضي القاعدة، وماذا يستفاد من الروايات.
ومهما يكن، فيقع الكلام هنا في مقامين:
المقام الأوّل: في حكم الاخلال السهوي بالجزء في طرف النقيصة، وما يقتضيه الأصل في ذلك من البطلان وعدمه.
المقام الثاني: في حكم الاخلال به في طرف الزيادة السهويّة والعمديّة. ولا يخفى، أنّ المقام الثاني سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى في التنبيه الثالث من تنبيهات صاحب الكفاية.
أمّا المقام الأوّل: فيقع الكلام في ثلاث جهات:
الجهة الأولى: في إمكان تكليف الناسي ثبوتاً بما عدا الجزء المنسي من سائر الأجزاء.
الجهة الثانية: إنّه على فرض امكان ذلك ثبوتاً، فهل هناك في مقام الاثبات ما يقتضي التكليف بما عدا الجزء المنسي في حال النسيان من دليل اجتهادي أو أصل عملي أو لا؟
الجهة الثالثة: إنّه على فرض عدم امكان تكليف الناسي ثبوتاً بما عدا المنسي، أو عدم قيام دليل أو أصل يقتضي التكليف به إثباتاً على فرض امكانه ثبوتاً، فهل هناك ما يقتضي الإجزاء بالمأتي به حال النسيان من دليل اجتهادي أو أصل عملي وإن لم يكن مأموراً به حتى لا تجب عليه الإعادة.
إذا عرفت ذلك، فنقول:
أمّا الجهة الأولى: فحاصل الكلام فيها، هو أنّه لا إشكال في سقوط التكليف بالجزء المنسيّ في حال النسيان لعدم القدرة عليه في ذلك الحال، فلا يعقل التكليف به.
وأمّا بالنسبة إلى ما عدا المنسي من سائر الأجزاء، فالذي يظهر من جماعة من الأعلام منهم الشيخ هو عدم امكانه أيضاً، لأنّه من المستحيل توجيه التكليف الفعلي إلى الناسي حال نسيانه على وجه يؤخذ الناسي عنواناً للمكلّف ويخاطب بذلك العنوان بمثل أيّها الناسي للسورة يجب عليك الصلاة بدونها، بداهة أنّ الناسي لا يرى نفسه واجداً لهذا العنوان، ولا يلتفت إلى نسيانه، فإنّه بمجرّد الالتفات إلى نسيانه يخرج عن عنوان الناسي ويدخل في عنوان الذاكر، فلا يمكن أن يكون هذا الخطاب محرّكاً للمكلّف نحو الفعل، لأنّ الالتفات إلى ما أُخذ عنواناً للمكلّف ممّا لا بدّ منه في الانبعاث وانقداح الإرادة، فالمستطيع للحج لو لم يجد نفسه مستطيعاً لا يكاد يمكن أن يكون الخطاب بالحج محرّكاً لإرادته نحوه.
والخلاصة: إنّه على تقديري الالتفات وعدمه يستحيل فعلية التكليف في حقّ الناسي للجزء، ومع استحالة الفعليّة يمتنع جعل التكليف في حقّه.
وهناك أربع محاولات للتخلّص من هذه العويصة، اثنتان منها لصاحب الكفاية (رحمه الله)، وواحدة للآغا ضياء الدين العراقي (رحمه الله)، وواحدة أيضاً حكيت عن الشيخ الأنصاري (رحمه الله).
أمّا المحاولة التي حكيت عن الشيخ الأعظم (رحمه الله)، فحاصلها: إنّه يمكن أخذ الناسي عنواناً للمكلّف، ويصحّ تكليفه بما عدا الجزء المنسي. بتقريب: أنّ المانع من ذلك ليس إلاّ توهّم كون الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في ذلك الحال، فلا يمكنه امتثال الأمر المتوجّه إليه، لأنّ امتثال الأمر فرع الالتفات إلى ما أخذ عنواناً للمكلّف، ولكن يضعّف ذلك بأنّ امتثال الأمر لا يتوقّف على أن يكون المكلّف ملتفتاً إلى ما أخذ عنواناً له بخصوصه، ويمكن الامتثال بالالتفات إلى ما ينطبق عليه من العنوان، ولو كان من باب الخطأ في التطبيق، فيقصد الأمر المتوجّه إليه بالعنوان الذي يعتقد أنّه واجد له، وإن أخطأ في اعتقاده.
والناسي للجزء، حيث لم يلتفت إلى نسيانه، بل يرى نفسه ذاكراً، فيقصد الأمر المتوجّه إليه بتخيّل أنّه أمر الذاكر، فيؤول إلى الخطأ في التطبيق، نظير قصد الأمر بالأداء والقضاء في مكان الآخر، فأخذ الناسي عنواناً للمكلّف أمر بمكان من الامكان ولا مانع عنه في مقام الثبوت، ولا في مقام عالم الطاعة والامتثال.
وأشكل عليه الشيخ النائيني (رحمه الله) بأنّ الخطأ في التطبيق إنّما يعقل فيما إذا أمكن جعل كلّ من الحكمين في نفسه، وكان في الواقع أحدهما وتخيّل المكلّف أنّه الآخر، كما إذا أتى المكلّف بعمل باعتقاد أنّه واجب فبان كونه مستحباً أو بالعكس.
وهذا بخلاف المقام، لأنّ الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في جميع الموارد، فيلزم أن يكون التكليف بما يكون امتثاله دائماً من باب الخطأ في التطبيق، وهذا لا يمكن الالتزام به.
والإنصاف: هو ما ذكره الميرزا النائيني، لأنّ الخطأ في التطبيق مورده ما إذا أتى بذات المأمور به في الخارج، واشتبه في خصوصياته وكيفيّاته. وهذا كما إذا كانت الصلاة مستحبة في حقه، فأتى بها بقصد وجوبها أو بالعكس، فإنّه اشتباه في التطبيق. وحاصله: إنّه لا بدّ من فرض صحّة التكليف بشيء حتى يكون من باب الخطأ في التطبيق.
وأمّا إذا لم يمكن ذلك، كما في مقامنا، لأنّ التكليف بعنوان الناسي غير قابل لأن يصير داعياً لانقداح الإرادة وحركة العضلات نحو المأمور به، فلا يكون حينئذٍ من باب الخطأ في التطبيق.
كما لا يكون من باب الخطأ في التطبيق ما إذا كان المأتي به مغايراً لما هو المأمور به، بل هو حينئذٍ من باب الخطأ في أصل المأمور به واشتباهه بغير المأمور به. وهذا، كما لو كان مديوناً لزيد بدينار فأعطاه لعمرو، فإنّه لا يكون مجزياً بوجه، لعدم كونه اتياناً للمأمور به.
|