[أصالة الاشتغال: تنبيهات العلم الإجمالي]
[التنبيه الأوّل: الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف، وفيه ست صور]
[باقي الصور: وهي ما لو كان الاضطرار إلى غير المعيّن]
وأمّا الاضطرار إلى غير المعيّن:
فقد ذهب صاحب الكفاية إلى انحلال العلم الإجمالي فيه، فلا يجب حينئذٍ مراعاة العلم الإجمالي بالاجتناب عن غير ما يدفع به الاضطرار.
بخلاف الكثير من الأعلام منهم الشيخ الأنصاري، والميرزا النائيني، والآغا ضياء الدين العراقي، والسيد الخوئي رحمهم الله، حيث ذهبوا إلى وجوب الاجتناب عن غير ما يدفع به الاضطرار، سواء كان الاضطرار قبل تعلّق التكليف بأحد الأطراف أو بعده، وسواء كان قبل العلم به أو بعده، أو مقارناً له.
ووجه ما ذهب إليه صاحب الكفاية: أنّ الترخيص في بعض الأطراف لا يجتمع مع العلم بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير، حيث يشترط في منجّزية العلم الإجمالي تعلّقه بتكليف فعلي على كلّ تقدير، بمعنى أنّه لو كان المعلوم بالإجمال في أي واحد من الطرفين أو الأطراف، كان مورد بعثٍ أو زجرٍ.
ومن المعلوم، أنّ إذن الشارع في ارتكاب المضطر إليه كاشف عن عدم فعليّة التكليف بالاجتناب عن الحرام، لانتفاء موضوع لزوم المراعاة بعروض الاضطرار، وبعد سقوط الإلزام بانتفاء موضوعه لا يبقى علم بالتكليف الفعلي في الطرف الآخر، بل هو احتمال التكليف، فيرجع فيه إلى أصل البراءة.
ويرد عليه: أنّ الاضطرار إلى غير المعيّن يجتمع مع التكليف الفعلي الواقعي ولا مزاحمة بينهما، لأنّ الاضطرار لم يتعلّق بخصوص الحرام كي ترتفع حرمته به، وإنّما تعلّق بالجامع بينه وبين الحلال، فالجامع هو المضطر إليه، وأحدهما مع الخصوصية هو الحرام، فما هو مضطر إليه ليس بحرامٍ، وما هو حرام ليس بمضطرٍ، فلا وجه حينئذٍ لرفع اليد عن حرمة الحرام المعلوم بالإجمال. نعم، الاضطرار يؤدّي إلى ترك الجمع بين المحتَملين في الامتثال، أي نرفع اليد عن الحكم الظاهري بوجوب الجمع بينهما المعبّر عنه بالموافقة القطعية، ولا نرفع اليد عن أصل فعليّة التكليف كما في الاضطرار إلى المعيّن كي يلزم منه سقوط العلم بالمرّة عن التأثير حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية.
وبالجملة، فالفرق بين الاضطرار إلى المعيّن والاضطرار إلى غير المعيّن هو:
أنّ الاضطرار إلى المعيّن: يزاحم التكليف الواقعي بنفس وجوده إذا صادف كون متعلّق التكليف هو المضطر إليه.
وأمّا الاضطرار إلى غير المعيّن: فإنّه بوجوده الواقعي لا يزاحم التكليف، لأنّه لا يتعيّن رفع الاضطرار بمتعلّق التكليف، لإمكان رفع الاضطرار بغيره.
ويشهد لذلك، أنّه لو علم بمتعلّق التكليف في حال الاضطرار، فلا بدّ أن يرفع الاضطرار بغيره، ولا يجوز أن يرفع اضطراره بالإناء الذي فيه نجاسة مثلاً، إذ الاضطرار إلى الجامع لا يجوّز له ذلك. وعليه، فما ذهب إليه صاحب الكفاية من أنّ الترخيص في بعض الأطراف تخييراً ينافي فعليّة الحكم، لم يكتب له التوفيق.
وقد ذكرنا سابقاً، أنّ فعليّة الحكم تدور مدار وجود الموضوع، كما أنّ التنجيز يدور مدار العلم بالحكم أو ما يقوم مقامه من الأمارات والأصول المحرزة. وعليه، فالاضطرار إلى غير المعيّن لا ينافي فعليّة الحكم لوجود موضوعه على كلّ حال، لأنّ المفروض وجود موضوع التكليف بين المشتبهات، والاضطرار لم يقع على موضوع التكليف، لإمكان رفع الاضطرار بغيره، فالمكلّف غير مضطر إلى الاقتحام في موضوع التكليف، وإن كان معذوراً لو صادف دفع الاضطرار به لجهله بالموضوع، ومن هنا، كان الحكم فعلياً على كل تقدير.
بخلاف الاضطرار إلى معيّن، إذ لا يكون التكليف فعلياً على كلّ تقدير، لاحتمال أن يكون المضطر إليه هو موضوع التكليف، فهو فعلي على تقدير كون التكليف في غير المضطر إليه، وغير فعلي على تقدير كون التكليف في المعيّن المضطر إليه. هذا كلّه بناءً على كون العلم الإجمالي مقتضياً للموافقة القطعية.
وأمّا بناءً على علّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية: فلا بدّ حينئذٍ من رفع اليد عن فعليّة الواقع ولو بمرتبة منه، لأنّه بدونه يستحيل الترخيص في ترك الموافقة القطعية ولو لأجل الاضطرار.
والسرّ فيه: هو أنّ العقل عند العلم الإجمالي بالتكليف يحكم حكماً تنجيزياً بلزوم الموافقة القطعية، وهذا الحكم العقلي غير قابل للتخصيص، فلو ورد حينئذٍ ترخيص من الشارع المقدّس في ترك الموافقة القطعية لأجل الاضطرار إلى الجامع لا بدّ وأن يكون ذلك برفع اليد عن الموضوع، لا رفع الحكم مع وجود الموضوع، لأنّه لا يقبل التخصيص، كما عرفت.
وعليه، فنرفع اليد عن منشئه أعني فعليّة التكليف على تقدير انطباق المضطر إليه على مورد التكليف.
ومن هنا، قد تصحّ مقالة صاحب الكفاية بأنّه إذا كان التكليف فعلياً على تقدير دون تقدير، فلا يصلح العلم به للمنجّزية، لأنّ الشرط في التنجيز أن يكون متعلّقاً بتكليف فعلي على كلّ تقدير.
ولكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ كلام صاحب الكفاية إنّما يصحّ لو كان المراد رفع اليد عن أصل فعليّة التكليف مطلقاً، لا رفع اليد عن اطلاق فعليّة التكليف، أي رفع اليد عن مرتبة منه، فإنّ هذا بمكان من الامكان. فإنّ ارتكاب أحد المحتملين للاضطرار وإن كان مطلقاً، أي سواء اجتنب عن المحتمل الآخر أم لا، إلاّ أنّه يقيّد بالاجتناب عن المحتمل الآخر، ويترتب عليه رفع الحكم بلزوم الموافقة القطعية مع بقاء العلم الإجمالي على تأثيره بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية.
|