[تنبيهات البراءة]
[التنبيه الرابع: أنحاء تعلّق النهي بالطبيعة]
وأجاب الشيخ الأنصاري (رحمه الله) بعد أن ذكر التوهّم بجواب ناقص، قال: في الشبهة التحريمية الموضوعية ما لفظه: «وتوهّم عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا، نظراً إلى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر مثلاً، فيجب حينئذٍ اجتناب كل ما يحتمل كونه خمراً من باب المقدّمة العلمية، فالعقل لا يقبح العقاب خصوصاً على تقدير مصادقة الحرام.
مدفوع، بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلاً أو المعلومة اجمالاً المترددة بين محصورين، والأوّل لا يحتاج إلى مقدمة علمية، والثاني يتوقف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير، وأمّا ما احتمل كونه خمراً من دون علم اجمالي فلم يعلم من النهي تحريمه، وليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرم يحسن العقاب عليه.
فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته ولا بتحريم خمر يتوقف العلم باجتنابه على اجتنابه، بين هذا الفرد المشتبه وبين الموضوع الكلّي المشتبه حكمه -كشرب التتن- في قبح العقاب عليه... إلى أن قال: ونظير هذا التوهم قد وقع في الشبهة الوجوبية، حيث تخيّل بعضهم أنّ دوران ما فات من الصلوات بين الأقل والأكثر موجب للاحتياط من باب وجوب المقدمة العلمية. وقد عرفت، وسيأتي اندفاعه... إلخ». (انتهى كلامه). وكلامه واضح، لا يحتاج إلى شرح أو تلخيص، إلا أنّه غير كافٍ كما سيتّضح لك.
وأمّا صاحب الكفاية فقد فصّل في المقام، بأنّه في بعض الموارد يرجع فيه إلى البراءة في الشبهة الموضوعية التحريمية، وفي بعضها الآخر لا يرجع فيه إلى البراءة، بل يكون المورد من باب أصالة الاشتغال.
وبيانه مع توضيح منّا: «إنّ النهي تارةً يتعلّق بالطبيعة على نحو صرف الوجود، وأخرى يتعلّق بها على نحو تكون سارية في جميع أفرادها.
ولازم الأوّل، أن يكون إطاعة واحدة حاصلة بترك جميع أفرادها، ومعصية واحدة حاصلة بفعل بعض أفرادها ولو مع ترك الباقي.
كما أنّ لازم الثاني، أن يكون هناك إطاعات متعدّدة ومعصية كذلك يتعدد أفرادها، فإذا ارتكب فرداً وترك آخر عصى في الأوّل وأطاع في الثاني.
والسرّ في ذلك: أنّ التكليف المتعلّق بها على النحو الأوّل ليس إلا تكليفاً واحداً لموضوع واحد، فلا مجال لتعدّد إطاعته ومعصيته.
والتكليف المتعلّق بها على النحو الثاني منحلّ إلى تكاليف متعددة بتعدّد الافراد. وعليه، فلو شكّ في مصداق أنّه من مصاديق الطبيعة المنهي عنها أم لا؟
فعلى الأوّل، يجب الاحتياط، إذ الشك ليس شكاً في التكليف، لكون التكليف معلوماً، وإنّما الشك في أنّ ارتكاب ذلك المصداق المشتبه معصية للنهي أم لا. وحيث إنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، فلا بدّ من تركه ليحصل اليقين بالفراغ.
وعلى الثاني، لا يجب الاحتياط، لأنّ الشكّ في الموضوع مستلزم للشك في أصل التكليف به، فيكون المرجع هو البراءة». (هذا حاصل ما يمكن توضيحه).
والإنصاف: أنّه قد ذكرنا في أكثر من مناسبة أنّ الأحكام الشرعية إنّما تتعلّق بأفعال المكلفّين، ولكن تارةً يكون لها تعلّق بموضوع خارجي، كوجوب إكرام العالم وحرمة شرب الخمر ونحوهما من التكاليف التي لها تعلّق بموضوع خارجي، سواء كان الموضوع من الموضوعات التي يمكن للمكلّف إيجادها في الخارج، كالخمر الذي يكون صنعه من العنب والتمر ونحوهما، أو كان من الموضوعات التي ليست من صنع المكلّف، ولا يتمكن من إيجادها في الخارج، كالقبلة بالنسبة لوجوب استقبالها ونحو ذلك.
وتارةً أخرى، لا يكون لها تعلّق بموضوع خارجي، كالصلاة، حيث إنّ أجزاءها ليست إلاّ الأفعال والأقوال الصادرة من المكلّف من دون أن يكون لها تعلّق بموضوع خارجي، وكذا الغناء والكذب ونحوهما.
فإن لم يكن للتكليف تعلّق بموضوع خارجي، فلا يعتبر في فعليّته سوى وجود شخص المكلّف واجداً للشرائط العامة والخاصة المعتبرة فيه، فعند وجود المكلّف يكون التكليف فعلياً علم به المكلّف أو لم يعلم، إذ ليس للعلم دخل في فعليّة التكليف. نعم، بعد العلم به يتنجّز وتصبح العقوبة على مخالفته. وفي هذا القسم من التكاليف لا يتصوّر فيه تحقق الشبهة الموضوعية.
وأمّا إن كان للتكليف تعلّق بموضوع خارجي، فما لم يعلم بوجود الموضوع لم تصحّ العقوبة على مخالفة ذلك التكليف، فإنّ الخطاب لا يكون فعلياً إلا بعد وجود الموضوع خارجاً، فكما أنّه لا يمكن أن يكون الخطاب فعلياً إلاّ بعد وجود المكلّف، كذلك لا يمكن أن يكون الخطاب فعلياً إلا بعد وجود الموضوع. وعليه، فمع العلم بعدم وجود الموضوع خارجاً يعلم بعدم فعليّة التكليف، ومع الشك في وجوده يشكّ في فعليّته، إذ لا أثر للعلم بتشريع الكبرى مع عدم العلم بانضمام الصغرى إليها، لأنّ وجود الصغرى خارجاً ممّا له دخل في فعلية الكبرى.
ونتيجة ما ذكرناه: أنّه مع الشكّ في الموضوع تجري البراءة بلا إشكال.
وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية من التفصيل، فهو صحيح في الصورة الثانية، وهو ما لو كان النهي متعلّقاً بالطبيعة على نحو تكون سارية في جميع أفرادها، أي يكون النهي منحلاً ومتعدداً بتعدّد أفراد الماهية، كما في قولك لا تشرب الخمر، حيث ينحلّ إلى قضايا جزئية بحسب تعدّد الخمر بالخارج.
وأمّا في الصورة الأولى التي ذكرها، وهي ما لو كان النهي متعلّقاً بالطبيعة على نحو صرف الوجود، بحيث يكون إطاعة واحدة حاصلة بترك جميع أفرادها، ومعصية واحدة حاصلة بفعل بعض أفرادها. وذكر أنّ المرجع في هذه الصورة فيما لو شكّ في مصداق أنّه من مصاديق الطبيعة المنهي عنها أم لا، هو قاعدة الاشتغال، باعتبار أنّ تعلّق التكليف بترك الطبيعة معلوم، ولا يحرز امتثاله إلاّ بترك كلّ ما يحتمل انطباق الطبيعة عليه.
ولكن الإنصاف: أنّ المرجع في هذه الصورة أيضاً هي البراءة، لأنّ الشك في مصداق أنّه من مصاديق الطبيعة أم لا، هو شكّ في تعلّق التكليف الضمني به، فيرجع إلى البراءة، إذ لا اختصاص لها بالتكاليف الاستقلالية.
ثمّ إنّه بقي عندنا صورة ثالثة في كيفية تعلّق النهي بالطبيعة، وهذه الصورة وإن كانت ممكنة ثبوتاً، لكنّها ليست مرادة في مقام الاثبات حتماً، وهي أن يكون النهي متعلّقاً بالطبيعة على نحو المجموع، بحيث لو ترك فرداً من الطبيعة فقد أطاع، ولو ارتكب بقية الأفراد بأجمعها. وهذا، بخلاف ما لو كان النهي متعلّقاً بالشيء على نحو الطبيعة السارية، كما ذكرناه سابقاً، إذ لازمها أنّه لو ارتكب فرداً فقد عصى ولو ترك البقية، لما عرفت، أنّ النهي انحلالي بتعدّد أفراد الموضوع، فلكلّ منها إطاعة ومعصية مستقلّة عن الآخر.
وفي هذه الصورة الثالثة هل يجوز ارتكاب جميع الأفراد المتيقّنة وترك خصوص الفرد المشكوك فيه، أم لا؟
|