والإنصاف: هو عدم صحّة الاستدلال بالمرسلة لضعفها سنداً ودلالة، لاحتمال كون المراد من الورود هو الصدور، كما عن صاحب الكفاية، ولا يمكن نفي هذا الاحتمال، ومع هذا الاحتمال لا يصحّ الاستدلال للبراءة، كما تقدم توضيحه.
نعم، ما رواه الشيخ في الأمالي من أنّ الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر أو نهي تام الدلالة، لأنّ المراد من الورود هو الوصول، لوضوح كون المراد من لفظ ما لم يرد عليك، أي ما لم يصل إليك. ولكنّك عرفت، أنّه ضعيف سنداً بجهالة عدّة من الرواة الواقعين في السند. والله العالم.
[صحيحة عبد الصمد بن بشير]
ومن جملة الروايات التي استدلّ بها للبراءة: صحيحة عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) في حديث: «إنّ رجلاً أعجمياً دخل المسجد يلبّي وعليه قميصه، فقال لأبي عبد الله (عليه السّلام): إنّي كنت رجلاً أعمل بيدي واجتمعت لي نفقة فحيث أحج لم أسأل أحداً عن شيء، وأفتوني هؤلاء أن أشق قميصي وأنزعه من قبل رجلي، وأنّ حجّي فاسد، وأنّ عليّ بدنة. فقال له: متى لبست قميصك، أبعد ما لبيّت أم قبل؟ قال: قبل أن ألبي. قال: فأخرجه من رأسك، فإنّه ليس عليك بدنة، وليس عليك الحج من قابل أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه، طف بالبيت سبعاً، وصلِّ ركعتين عند مقام إبراهيم (عليه السّلام)، واسعَ بين الصفا والمروة، وقصّر من شعرك، فإذا كان يوم التروية فاغتسل وأهل بالحج واصنع كما يصنع الناس»[1]f45.
ثمّ إنّ جماعة من الأعلام عبّروا عن الرواية بالخبر ممّا يشعر بخلل في السند.
وقال الشيخ حسن في المنتقى: «وهذا الحديث بحسب الظاهر اسناده من الصحيح المشهوري، وعند التحقيق يرى أنّه معلّل، لأنّ المعهود من رواية موسى بن القاسم عن أصحاب أبي عبد الله (عليه السّلام) الذين لم يتأخروا إلى زمن الرضا (عليه السّلام) أن يكون بالواسطة وعبد الصمد بن بشير منهم. وبالجملة، فالشك حاصل في اتصال الطريق لشيوع التوهّم في مثله وفقد المساعد على نفيه». (انتهى كلامه). والإنصاف: أنّ هذا التوهّم في غير محلّه. وتحقيقه في علم الفقه.
وأمّا وجه الاستدلال بها: هو أنّها دالّة على نفي البأس وعدم العقوبة على ارتكاب ما لا يعلم حرمته.
وقد يشكل في المقام بأنّ الاستدلال مبنيّ على كون المراد بالجهالة ما يقابل العلم وهو غير معلوم، إذ من المحتمل أن يكون المراد منها هي السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره عن عاقل، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيما﴾[2]f46.
وقد روى الطبرسي في مجمع البيان عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنّه قال: «كل ذنب عمله العبد وإن كان عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه. فقد حكى الله تعالى قول يوسف لإخوته: ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُون﴾[3]، فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله»[4]f48. وفيه: أوّلاً: أنّ الرواية ضعيفة بالإرسال. وثانياً: أنّ إطلاق الجهالة على السفاهة يحتاج إلى قرينة، ففي كل مورد قامت القرينة على ذلك نأخذ بها، وإلاّ فمعنى الجهالة هو ما يقابل العلم. وثالثاً: أنّه واضح جداً كون المراد من الجهالة في الصحيحة هو عدم العلم، لا السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره عن عاقل.
والخلاصة: إنّ الاستدلال بالصحيحة لا غبار عليه من هذه الجهة.
وأورد الشيخ على الاستدلال بالصحيحة: بأنّ الباء في قوله (عليه السّلام): «بجهالة» ظاهر في السببيّة للارتكاب، فيختصّ بالغافل والجاهل المركّب، ولا يشمل الجاهل البسيط المحتمل لكون فعله صواباً أو خطأ.
[1] وسائل الشيعة، باب 45 من أبواب تروك الإحرام ح3.
[2] سورة النساء، الآية 17.
[3] سورة يوسف، الآية: 89.
[4] مجمع البيان ج34 ص36.
|