وممّا يعمل في وقت السّحر الدعاء، وهو خير وقت يُدْعَى فيه، والدُّعاء مخصوص في العرف الشرعي بسؤال العبد ربَّه على وجه الابتهال، وقد يطلق على التقديس والتمجيد، ومنه ما ورد في صحيحة معاوية بن عمَّار عن أبي عبد الله عليه السلام «قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: ألَا أعلّمك دعاءَ يوم عرفة، وهو دعاء من كان قبلي مِنَ الأنبياء؟ فقال علي عليه السلام: بلى، يا رسول الله! قال: فتقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، ويميت ويحيى، وهو حيّ لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيء قدير...»[i]f377.
ثمّ إنّك عرفت: أنّ الدعاء من أفضل العبادة، ففي صحيح معاوية بن عمار «قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام رجلين افتتحا الصَّلاة في ساعةٍ واحدةٍ فتلا هذا القرآن، فكانت تلاوته أكثر من دعائه، ودعا هذا أكثر فكان دعاؤه أكثر من تلاوته، ثمّ انصرفا في ساعةٍ واحدةٍ، أيّهما أفضل؟ قال: كلٌّ فيه فَضْل، كلٌّ حَسَن، قلت: إنّي قد علمت أنّ كلاً حسن، وأنّ كلاً فيه فضل، فقال: الدعاء أفضل، أمَا سمعت قول الله سبحانه وتعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين »، هي والله العبادة، هي والله أفضل، هي والله أفضل، أليست هي العبادة؟!، هي والله العبادة، هي والله العبادة، أليست هي أشدهنّ؟!، هي والله أشدهنّ، هي والله أشدهنّ»[ii]f378.
ثمَّ إنّ أفضل وقت لصلاة الليل هو وقت السّحر، قريب الفجر، وتدلّ عليه عدّة من الروايات:
منها: صحيحة مُرَازم عن أبي عبد الله عليه السلام «قال: قلت له: متى أصلّي صلاةَ الليل؟ قال: صلِّها في آخر الليل...»[iii]f379، والمراد بهارون الواقع في السند: هو ابن خارجة الثقة.
ومنها: موثّقة سُليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام «وثمانِ ركعات من آخر الليل...»[iv]f380.
ومنها: صحيحة أبي بصير، حيث ورد في ذَيْلها «وأحبّ صلاة الليل إليهم آخر الليل»[v]f381.
ولكنّ هذه الأخبار ينافيها ما ورد في عدّة من الأخبار، من أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان يصليها متفرقة، حتّى أنّ ابن الجنيد قال: «إنّه يستحبّ الإتيان بصلاة الليل في ثلاثة أوقات».
ومن جملة الروايات الدّالة على أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان يبعّضها، صحيحة معاوية بن وهب «قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: وذَكَر صلاة النبي صلى الله عليه وآله قال: كانَ يُؤتَى بطهورٍ فيخمّر عند رأسه ويوضع سواكه تحت فراشه، ثمّ ينام ما شاء الله، فإذا استيقظ جلس، ثمّ قلب بصره في السَّماء، ثمَّ تلا الآيات من [آل عمران]: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ » الآيات ، ثمّ يستنّ ويتطهّر، ثمّ يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءة ركوعه، وسجوده على قدر ركوعه، يركع حتّى يُقال: متى يرفع رأسَه، ويسجد حتّى يُقال: متى يرفع رأسَه، ثمّ يعودُ إلى فراشه، فينام ما شاء الله، ثمّ يستيقظ فيجلس فيتلُو الآيات من [آل عمران]، ويقلب بصره في السماء، ثم يستنّ ويتطهّر، ويقوم إلى المسجد، ويصلّي الأربع ركعات، كما ركع قبل ذلك، ثم يعود إلى فراشه، فينام ماشاء الله، ثمّ يستيقظ، ويجلس، ويتلو الآيات من [آل عمران]، ويقلّب بصره في السماء، ثمّ يستنّ ويتطهّر، ويقوم إلى المسجد، فيوتر ويصلّي الركعتين، ثمّ يخرج إلى الصَّلاة»[vi]f382، ومعنى يستنّ: يستاك.
ونحوها: حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...»[vii]f383.
ويمكن الجمع بين هذه الروايات والروايات المتقدمة: بأنّ التأخير إلى آخر الليل أفضل لِمَن أراد أن يصلّيها في مقام واحد، والأفضل الابتداء من نصف الليل لمن أراد التفريق، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وآله.
وأما القول: بأنّ التفريق من خصائص النبي صلى الله عليه وآله.
فيردّه: ما في ذَيْل حسنة الحلبي المتقدّمة «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله...»، وهذا يدلّ على أنّ التأسّي به حسن، فكيف يكون من خصائصه؟!، وإن كان التأسّي به في ذلك فيه صعوبة على غالب الناس، إذ ليس في وسع سائر الناس أن يفعلوا كذلك، والله العالم.
[i] الوسائل باب 14 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ح2.
[ii] الوسائل باب 6 من أبواب التعقيب ح1.
[iii] الوسائل باب 54 من أبواب المواقيت ح3.
[iv] الوسائل باب 13 من أبواب الفرائض ونوافلها ح16.
[v] الوسائل باب 14 من أبواب الفرائض ونوافلها ح2.
[vi] الوسائل باب 53 من أبواب المواقيت ح1.
[vii] الوسائل باب 53 من أبواب المواقيت ح2.
|