وقد استدلّ المحقق في المعتبر للمشهور حيث قال: «بأنّ ما بين صلاة المغرب، وذهاب الحمرة وقت يستحبّ فيه تأخير العشاء، فكان الإقبال فيه على النافلة حسناً، وعند ذهاب الحمرة يقع الاشتغال بالفرض، فلا يصلح للنافلة، قال: ويدلّ على أنّ آخر وقتها ذهاب الحمرة ما رُوِي من منع النافلة في وقت الفريضة، روى ذلك جماعة، منهم محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إذا دخل وقت الفريضة فلا تطوع».
وقد أشكل عليه صاحب المدارك، حيث قال: «وفيه نظر، إذ من المعلوم أنّ النهي عن التطوّع وقت الفريضة إنّما يتوجّه إلى غير الرواتب، للقطع باستحبابها في أوقات الفرائض، وإلاّ لم تشرّع نافلة المغرب عند من قال بدخول وقت العشاء بعد مضي مقدار ثلاث ركعات من أوّل وقت المغرب، ولا نافلة الظّهرين عند الجميع، وقوله: إنّه عند ذهاب الحمرة يقع الاشتغال بالفرض، فلا يصلح للنافلة، دعوى خالية من الدليل، مع أنّ الاشتغال بالفرض قد يقع قبل ذلك عند المصنّف، ومَنْ قال بمقالته، ومجرد استحباب تأخير العشاء عن أوّل وقتها إلى ذهاب الحمرة لا يصلح للفرق».
ويرد عليه: أنّ أخبارَ النهي عن التطوّع في وقت الفريضة شاملة للرواتب بلا إشكال، وقد عرفت سابقاً أنّ الأخبار الدّالة على تحديد الظّهرين بالذّراع والذّراعين قد علّلت بأنّه جعل رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك لِئلاَّ يكون تَطوُّعُ في وقت الفريضة.
ومن هنا ذكرنا سابقاً: أنّ الشارع كأنه اقتطع وقت نافلة الظّهرين، وجعله للنافلة فقط، لئلاَّ يكن تطوّع في وقت الفريضة، فيكون منهيّاً عنه.
وأمّا إشكاله على المحقّق: «بأنّ الاشتغال بالفرض قد يقع قبل ذلك...».
فيرد عليه: أنّ المراد من وقت الفريضة المنهيّ عن التطوّع فيه هو وقت الفضيلة، ووقت فضيلة العشاء عند الأكثر يكون بعد ذهاب الحمرة.
وعليه، فلا نهي قبل ذهاب الحمرة، ومن هنا لا يرد هذا الإشكال على المحقّق.
نعم، الذي يرد عليه: أنّ الروايات الدّالة على أنّه لا تطوّع في وقت الفريضة محمولة على الكراهة، وليست دالّة على الحرمة كما سيأتي توضيحه قريباً بشكل مفصّل إن شاء الله تعالى فلا مانع حينئذٍ من الإتيان بالنافلة بعد ذهاب الشَّفَق، غاية الأمر أنّها مرجوحة، بمعنى: كونها أقلّ ثواباً، وتكون أداءً لا قضاءً، فلا دلالة حينئذٍ للروايات الدَّالة على النهي عن التطوّع في وقت الفريضة على كون النافلة في وقت الفريضة تكون قضاء، بل هي دالّة على مجرد المرجوحيّة، كما عرفت.
وقد يُستدلّ لمذهب المشهور أيضاً: بالأخبار المتضمنة أنّ المفيض من عرفات إذا صلّى العشاء بالمزدلفة يؤخّر النافلة إلى ما بعد العشاء، لأنّ وصول الحاجّ إلى مزدلفة يكون غالباً بعد ذهاب الحمرة المغربيّة، فيكون الأمر بتأخير النافلة لأجل انقضاء وقتها.
ويرد عليه: أنّه لم يعلم انحصار وجه التأخير بخروج وقت النافلة، بل لعلّه لاستحباب الجمع بين الصَّلاتين في المزدلفة، وهو كذلك، والمفسَّر بعدم توسط التطوّع.
والإنصاف: هو ما ذهب إليه المصنِّف، وجماعة من الأعلام، «من امتداد وقتها إلى آخر وقت الفريضة»، وذلك لما عرفت: من أنَّ مقتضى إطلاق الأخبار الآمرة بفعل النافلة بعد المغربِ مشروعيةُ الإتيان بها بعد المغرب مطلقاً، ولو إلى آخر وقت الفريضة، كالأوامر المتعلّقة بالأذكار والأدعية والسجدة، وغيرها من التعقيبات المستحبة بعدها.
هذا، وقد استدلّ صاحب المدارك لامتداد وقتها بوقتِ المغرب بصحيحة أبان بن تغلب «قال: صلّيت خلف أبي عبد الله عليه السلام المغرب بالمزدلفة، فلمّا انصرف أقام الصّلاة فصلّى العشاء الآخرة لم يركع بينهما، ثمّ صلّيت معه بعد ذلك بسنة، فصلّى المغرب، ثمّ قام فتنفّل بأربع ركعات، ثمّ أقام فصلّى العشاء الآخرة...»[i]f347.
وجه الاستدلال: أنّ النافلة وقعت منه بعد ذهاب الحمرة المغربيّة، لِمَا عرفت من أنّ الحجّاج يصِلون إلى المزدلفة بعد ذهاب الحمرة المغربيّة بحسب الغالب، إذ الفاصلة بين عرفات ومزدلفة ما يقرب من فرسخين، وكان قطع المسافة سابقاً على الدواب، أو مشياً على الأقدام.
ويرد عليه: بأنّه لا ظهور في أنّ فعله عليه السلام النافلة كان بعد ذهاب وقتها، ولا بأنّه فعلها أداء، بل لعلّه قضاء، بناءً على عدم حرمة التطوّع في وقت الفريضة.
وبالجملة: فإنّ هذه الصحيحة هي حكاية فِعْل، لم يعرف زمانه، ولا وجهه، والله العالم.
ثمّ إنّه بناءً على ما ذهب إليه المشهور من امتداد وقتها إلى ذهاب الحمرة المغربيّة : فلو شرع في ركعتين منها، ثمّ زالت الحمرة فهل يتمّمهما أم يقطعهما، ويبدأ بالعشاء، قال المصنّف في الذكرى: «ولو قلنا: بقول الشيخ، وكان قد شرع في ركعتين منها، ثمّ زالت الحمرة أتمّهما، سواء كانتا الأُولتين أو الأُخرتين، للنهي عن إبطال العمل، ولأنّ الصّلاة على ما افتتحت عليه، ويظهر من كلام ابن إدريس أنَّه إن كان قد شرع في الأربع أتمَّها، وإن ذهب الشَّفَق».
قال صاحب المدارك بعد أن نقل كلام الشهيد : «وهو حسن، وأحسن منه إتمام الأربع بالتلبّس بشيءٍ منها قبل ذهاب الشَّفَق، كما نُقل عن ابن إدريس، وأولى من الجميع الإتيان بالنافلة بعد المغرب متى أوقعها المكلّف، وعدم اعتبار شيءٍ من ذلك».
أقول: هذا هو الصحيح، إذ لا مانع من ذلك، إلاَّ ما ورد من النهي عن التطوّع في وقت الفريضة، وستعرف إن شاء الله تعالى أنّ ذلك محمول على الكراهة.
أضف إلى ذلك: أنّه قد أتى بركعة في الوقت فيشمله ما ورد من أن مَن أدرك ركعةً من الوقت، فكأنّما أدرك الوقت كلّه، فإنّ الرواية الواردة في ذلك، وإن كانت واردةً في صلاة الغداة، والتي هي فريضة، إلاَّ أنّ المناط هو عموم اللفظ، لا خصوصيّة المورد، وحيث إنَّ مجموع نافلة المغرب بمنزلة صلاة واحدة في أنّ لها وقتاً واحداً، فيمكن دعوى استفادته من ذلك.
وأمّا ما استدلّ به المصنّف في الذكرى من وجوب الإتمام للنهي عن إبطال العمل فليس بتام، لأنّه:
أوَّلاً: لا دليل على حرمة إبطال العمل إلاَّ الإجماع المنقول بخبر الواحد، وهو غير حجّة.
وثانياً: على فرض تماميّة هذا الدليل فيختصّ بالفريضة، دون النافلة، إذ الدليل اللبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو الفريضة، وأمّا النافلة فيرجع فيها إلى أصل البراءة عن حرمة القطع.
وأمّا استدلاله للإتمام أيضاً بأنّ الصّلاة على ما افتتحت عليه.
ففيه أوَّلاً: أنّ موردَ الرواية من قام في الصلاة المكتوبة فسها، فظنّ أنّها نافلة، أو قام في النافلة فظنّ أنّها مكتوبة، كما في رواية معاوية «قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ قام في الصَّلاة المكتوبة فسها، فظنّ أنّها نافلة، أو قام في النافلة فظنّ أنّها مكتوبة، قال: هي على ما افتتح الصَّلاة عليه»[ii]f348، وسنتكلم إن شاء الله تعالى عن الرواية من حيث السند والدلالة عند الكلام على النيّة.
وثانياً مع قطع النظر عن مورد الرواية : فليس معناها المضي فيما شرع فيه حتّى مع اختلال شرائطه، وحصول ما ينافيه، والله العالم.
[i] الوسائل باب 33 من أبواب المواقيت ح1.
[ii] الوسائل باب 2 من أبواب النية ح2.
|