وأمَّا ما عن الشيخ المفيد، والشيخ (رحمهما الله) في النهاية، والجمل، والخلاف، والاقتصاد من أنَّ آخرَه ثُلُث الليل مطلقاً فيدلّ عليه: بعض الأخبار المتقدِّمة، والتي منها معتبرة زرارة، حيث ورد في الذَّيْل: «وآخر وقت العشاءِ ثُلُث الليل»[i]f280.
ومنها: خبر معاوية بن عمَّار في رواية «أنَّ وقت العشاء الآخرة إلى ثلث الليل»[ii]f281، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال، فالتعبير عنها بالصحيحة في غير محلِّه، وكذا غيرها من الأخبار.
والإنصاف: أنَّ هذه الأخبار تُحمل على انتهاء وقت الفضيلة في الثلث من الليل، وذلك للأخبار المتقدِّمة الدَّالة على الامتداد إلى النصف اختياراً، وهي مستفيضة جدّاً، بل من يدّعي تواترها لا يكون مجازِفاً.
وأمَّا ما ذكره الشيخ في المبسوط من التفصيل بين المختار؛ فإلى الثلث، وبين المضطرّ والمعذور؛ فإلى النصف ووافقه صاحب الحدائق، جمعاً بين الأخبار: ففي غير محلِّه، إذ لا شاهد لهذا الجمع، فالإنصاف هو: ما ذكرناه.
تنبيه:
ورد في عدةٍ من الروايات أنَّه «لولا أنّي أخاف أنْ أشقَّ على أمَّتي لأخَّرت العتمة إلى ثُلُث الليل...»، كما في موثَّقة أبي بصير المتقدِّمة، وفي موثَّقة ذَرِيْح عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث : «إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لولا أنِّي أكره أن أشقَّ على أمَّتي لأخَّرتها يعني العتمة إلى ثُلُث الليل»[iii]f282.
وفي خبر أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام «قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لولا أنْ أشقَّ على أمتي لأخَّرت العشاءَ إلى نصف الليل»[iv]f283، ولكنَّه ضعيف بجهالة أحمد بن عبد الله القروي.
وفي موثَّقة أبي بصير عن أبي عبد الله «قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لولا نوم الصبيّ، وغلبة (علّة) الضعيف، لأخَّرت العتمة إلى ثلث الليل»[v]f284.
وفي رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام «قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لولا أن أشقّ على أمَّتي لأخَّرتُ العشاءَ إلى ثُلُثِ الليل»[vi]f285، ولكنَّها ضعيفة بعدم وثاقة معلَّى بن محمَّد.
ذكر المصنِّف في الذكرى: «أنَّه يستفاد من هذه الأخبار، وأمثالها استحبابُ تأخيرِ العشاءِ عن ذهاب الشَّفَق» قال: «وقد روى عبد الله بن سنان عن الصَّادق عليه السلام قال: أخَّر رسولُ الله صلى الله عليه وآله ليلةً (من الليالي) العِشاء الآخرة ما شاء الله، فجاء عمر فدق الباب، فقال: يا رسول الله! نام النساء نام الصبيان: فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ليس لكم أن تؤذُّوني، ولا تأمروني، وإنَّما عليكم أن تسمعوا وتطيعوا[vii]f286 إلى أن قال: وظاهر الأصحاب عدم هذا الاستحباب، لمعارضة أخبار أفضلية أوَّل الوقت، وصرَّح به في المبسوط، وقال المرتضى لمّا قال الناصر: أفضل الأوقات أوّلها في الصلوات كلّها : هذا صحيح، وهو مذهب أصحابنا».
أقول: لا يستفاد استحباب التأخير من هذه الروايات، لأنَّ قوله صلى الله عليه وآله: «لولا أن أشقّ على أمّتي...» يدل على انتفاء التشريع، وأنّ خوف المشقّة على الأمّة هو المانع من التشريع.
وبالجملة: فإنَّه لم يجعل فضيلة العشاء في التأخير إلى مضي الثُلُث، وذلك للمشقَّة.
وعليه، فكيف يستفاد الاستحباب من هذه الأخبار؟!.
وأمَّا صحيحة عبد الله بن سنان التي ذكرها المصنِّف في الذكرى: فالظاهر أنَّ تأخيره صلى الله عليه وآله تلك الليلة بخصوصها دون سائر الليالي إنَّما كان لعذر، وكان ذلك قضيةً في واقعة، لا يقاس عليها.
ويشير إلى ذلك ما في نسخة الوسائل: «أخّر رسول الله ليلةً من الليالي...» فقوله: «ليلةً من الليالي» يُفهم منه أنّ ذلك لم يكن مستمرّاً على الدوام، والله العالم.
وأمَّا امتداد وقت المضطر والمعذور إلى طلوع الفجر بالنسبة للمغرب والعشاء : فقد عرفت أنّ بعض الأعلام ذهب إلى ذلك، وجعله صاحب المدارك في خصوص النائم والناسي وجهاً قويّاً.
ومهما يكن، فقد يُستدلّ لذلك ببعض الأخبار:
منها: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام «قال: إن نام رجل، أو نسي أن يصلِّي المغرب والعشاء الآخرة، فإنِ استيقظَ قبل الفجر قدر ما يصلِّيهما كلتَيْهما فليصلِّهما، وإن خاف أن تفوته إحداهما فليَبْدأ بالعشاء الآخرة، وإنِ استيقظ بعد الفجر فليصلِّ الصُّبْحَ، ثمَّ المغربَ، ثمَّ العشاءَ الآخرة قبل طلوع الشَّمس»[viii]f287، ونحوها صحيح أبي بصير[ix]f288.
ومنها: موثقة عبد الله ين سنان عن أبي عبد الله عليه السلام «قال: إذا طهرت المرأة قبل غروب الشَّمس فلتصلّ الظَّهر والعصر، وإن طهرت من آخر الليل فلتصلّ المغرب والعشاء»[x]f289، والرواية موثقة، لأنَّ طريق الشيخ إلى عليّ بن الحسن بن فضّال فيه عليّ بن محمّد الزبير القرشي المعروف بابن الزبير، وهو شيخ المشايخ، ومن المعاريف والمشاهير، وإن لم يوثَّق بالخصوص، فلا إشكال من هذه الجهة.
[i] الوسائل باب 10 من أبواب المواقيت ح3.
[ii] الوسائل باب 21 من أبواب المواقيت ح4.
[iii] الوسائل باب 17 من أبواب المواقيت ح10.
[iv] الوسائل باب 21 من أبواب المواقيت ح5.
[v] الوسائل باب 21 من أبواب المواقيت ح6.
[vi] الوسائل باب 17 من أبواب المواقيت ح12.
[vii] الوسائل باب 21 من أبواب المواقيت ح1.
[viii] الوسائل باب 62 من أبواب المواقيت ح4.
[ix] الوسائل باب 62 من أبواب المواقيت ح3.
[x] الوسائل باب 49 من أبواب الحيض ح10.
|