ومنها: الاستقرار، إذ المعروف بين الأعلام اعتبار الاستقرار في القيام.
واستدل له بعدّة أدلّة:
منها: أنّه مأخوذ في مفهوم القيام.
وفيه: ما لا يخفى، فإنّ المضطرب، بل الماشي، يصدق عليه عنوان القائم بلا إشكال.
ومنها: رواية سليمان بن صالح عن أبي عبد الله N «قال: لا يقيم أحدكم الصّلاة إلى أن قال: وَلْيتمكّن في الإقامة، كما يتمكّن في الصّلاة، فإنّه إذا أخذ في الإقامة فهو في صلاة»[i]f616.
والمراد من التمكُّن بحسب الظاهر الاستقرار والاطمئنان، وبما أنَّ اعتباره في الصّلاة أمر مفروغ منه فأراد الإمام N اعتباره في الإقامة أيضاً، ولكن على نحو الاستحباب فيها، لقيام الأدلّة على عدم لزوم الاطمئنان في الإقامة.
وأمَّا في الصَّلاة فيبقى الأمر بالاطمئنان فيها على لزومه.
ولكنّك عرفت سابقاً أنّها ضعيفة بجهالة صالح بن عقبة، واشتراك سليمان بن صالح بين الثقة وغيره.
ومنها: معتبرة السَّكوني عن أبي عبد الله N «أنَّه قال في الرَّجل: يصلِّي في موضع، ثمَّ يريد أن يتقدَّم، قال: يكفّ عن القراءة في مشيه حتَّى يتقدَّم إلى الموضع الذي يريد، ثمَّ يقرأ»[ii]f617.
وفيها: أنَّ موردها القراءة، فتدلّ على اعتبار الاستقرار في القيام حال القراءة، ولا تدلّ على اعتبار الاستقرار في القيام في جميع أفعال الصّلاة.
ومنها: رواية هارون بن حمزة الغنوي «أنّه سأل أبا عبد الله N عن الصّلاة في السّفينة، فقال: إن كانت محمّلة ثقيلة إذا قمت فيها لم تتحرك فصلّ قائماً، وإن كانت خفيفةً تكفأ فصلّ قاعداً»[iii]f618.
وفيها أوَّلاً: أنَّها ضعيفة، لعدم وثاقة يزيد بن إسحاق.
وتوثيق بعض المتأخّرين له كالشّهيد الثاني R في الدراية، والعلاّمة R في الخلاصة حيث صحّح طريق الشَّيخ الصدوق R إلى هارون بن حمزة الغنوي، والذي فيه يزيد بن إسحاق غير مفيد، لما عرفت من أنَّ توثيقات المتأخِّرين مبنية على الحدس، فلا تشملها أدلّة حجّية خبر الواحد.
وثانياً: أنّها لا تدلّ على تقديم الاستقرار جالساً على القيام متحرّكاً حتّى يفهم منها اعتبار الاستقرار في القيام، إذ المراد من قوله N: «لم تتحرك» أي إنَّها لا تكفأ، فتدلّ على ترجيح الجلوس بلا انكفاء على القيام مع الانكفاء.
وعليه، فلا دلالة لها على المطلب، بل تكون خارجةً عمَّا نحن فيه.
والمراد من تكفأ، أي إنَّها تكفأ من قام فيها، لا أنَّها هي تنكفئ، إذ من المعلوم عدم انقلاب السَّفينة بقيام واحد فيها.
ومنها: الإجماع، حيث ادَّعى غير واحد الإجماع على اعتبار الاستقرار في القيام.
والظاهر أنَّ اعتبار الاستقرار في القيام أمر متسالم عليه بين الأعلام، بحيث خرجت المسألة عن الإجماع المصطلح عليه، وبما أنَّ التسالم دليل لبِّي فيقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو حال العمد، فلو أخلّ به سهواً أو اضطراراً، ولو في حال التكبير فضلاً عن غيره لم تبطل صلاته على الأقوى، والله العالم.
(1) قال المصنّف R في الذّكرى: «أمَّا مَنْ تقوَّس ظهره لكبر أو زمانة، فإنَّه يجزئه تلك الحالة، بل يجب عليه القيام كذلك، ولا يجوز له القعود عندنا».
أقول: لا إشكال في المسألة، لأنَّ أدلَّة اعتبار الانتصاب إنَّما هي فيما لو أمكن ذلك، أي هي شرط في حال الاختيار، وأمَّا مع الاضطرار فإطلاقات أدلَّة القيام محكمة.
ويدّل عليه بالخصوص صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن N «قال: سألتُه عن السّفينة لم يقدر صاحبها على القيام يصلّي فيها وهو جالس، يؤمي أو يسجد؟ قال: يقوم وإن حنى ظهره»[iv]f619، فالمراد من قوله: لم يقدر صاحبها على القيام، أي القيام مع الانتصاب.
(1) ذكرنا فيما تقدَّم أنَّ الأقوى جواز الاعتمد اختياراً.
وأمَّا على القول بالمنع فلا إشكال في الجواز مع الاضطرار، وفي الجواهر: «نعم، لا تأمُّل لأحد من الأصحاب في اعتبار الاختيار في شرطيَّة الإقلال، أمَّا لو اضطر إليه جاز، بل وجب، وقدم على القعود بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل عن ظاهر المنتهى الإجماع عليه من غير فرق بين الآدمي وغيره، ولا بين خشبة الأعرج، وغيرها، لصدق القيام والصَّلاة، وعدم سقوط الميسور بالمعسور، وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه...».
أقول بناء على القول بالمنع اختياراً : يكفي في الحكم بالجواز بعد التسالم بين الأعلام كون الجواز على طبق القاعدة، لما عرفت من أنَّ الإقلال ليس مأخوذاً في مفهوم القيام.
وعليه، فلو قلنا: بأنَّ الأدلَّة منصرفة إلى القيام الاستقلالي، وقلنا: إنَّ الانصراف مختصّ بحال الاختيار أيضاً، ففي صورة الاضطرار نتمسَّك بإطلاقات القيام.
ويدلّ عليه بالخصوص أيضاً صحيحة ابن سنان المتقدّمة، حيث ورد في ذيلها: «ولا تستند إلى جدار وأنت تصلّي، إلاَّ أن تكون مريضاً»[v]f620.
وخبر الراوندي في دعواته «قال: وروي عنهم S أنَّ المريض تلزمه الصَّلاة إذا كان عقله ثابتاً، فإن لم يتمكّن من القيام بنفسه، اعتمد على حائط أو عكازة...»[vi]f621، ولكنَّه ضعيف بالإرسال.
وأمَّا ما ذكره صاحب الجواهر R من الاستدلال بحديث عدم سقوط الميسور بالمعسور، وحديث ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه فقد ذكرنا في أكثر من مناسبة أنَّ هذين الحديثين مذكوران في كتاب غوالي اللآلي، وهما ضعيفان بالإرسال، بل طعن صاحب الحدائق R على المؤلِّف والمؤلَّف، لتساهله في نقل الأحاديث، وذكره الغثّ والسَّمين في كتابه.
[i] الوسائل باب 13 من أبواب الأذان والإقامة ح12.
[ii] الوسائل باب 34 من أبواب القراءة في الصلاة ح1.
[iii] الوسائل باب 14 من أبواب القيام ح2.
[iv] الوسائل باب 14 من أبواب القيام ح5.
[v] الوسائل باب 10 من أبواب القيام ح2.
[vi] المستدرك باب 1 من أبواب القيام ح7.
|