والإنصاف: هو القول الأوَّل، الدَّال على كون الغروب يتحقَّق بذهاب الحمرة، وقد عرفت أنَّ بعض الأخبار المتقدِّمة الدَّالة عليه تامَّة سنداً ودلالةً.
وأمَّا الأخبار الدَّالة على القول الآخر، فما كان منها ظاهراً في الدَّلالة على الاعتبار بسقوط القرص فهو مطلق، إذ لم يصرّح فيها بعدم اشتراط ذهاب الحمرة، فتُحمل حينئذٍ على المقيَّد، أي: الأخبار الدَّالة على كون الاعتبار بذهاب الحمرة.
وأمَّا ما كان منها مجملاً كصحيحة زرارة المتقدِّمة وغيرها، حيث ورد فيها: «وقت المغرب إذا غاب القرص، فإن رأيت بعد ذلك وقد صلّيت أعدت الصَّلاة، ومضى صومك...»[i]f247.
وجه الإجمال فيها: أنَّه لو كانت دالة على أنَّ الاعتبار بغيبوبة القرص فيها غيبوبته عن النظر مع عدم الحائل، فكيف يتصور الرؤية بعد ذلك؟
وعليه، فهذه الصحيحة ونحوها تحمل على المبيَّن في روايات القول الأوَّل.
وأمَّا ما كان منها صريحاً، أو كالصريح، في كون المناط بسقوط القرص، فيُحمل على التقيَّة، بعد عدم إمكان الجمع بينها وبين روايات القول الأوَّل.
ويشهد لهذا الحمل: ملاحظة الأحوال، حيث إنَّ العادة تقضي بصيرورة وقت صلاة المغرب لدى العامَّة في عصر الصادقَيْن J بعد استقرار مذهبهم على دخوله بسقوط القرص، وشهادة أخبارهم المرويَّة عن النبي صلى الله عليه وآله بذلك من الضروريات الواصلة إليهم يداً بيدٍ من النبي صلى الله عليه وآله، فكان إظهار خلافه عندهم من قبيل إنكار الضروري الموجب للكفر، فالأئمة S في مثل هذه الموارد كانوا مضطرِّين إلى موافقتهم قولاً وفعلاً، سواء أكان الوقت لديهم في الواقع استتار القرص، أم ذهاب الحمرة.
وبالجملة: فيشكل في مثل الفرض استكشاف الحكم الواقعي من أقوال الأئمة عليهما السلام، وأفعالهم الموافقة للعامَّة، إذ لا يصحّ الاعتماد على أصالة عدم التقيّة بعد شهادة الحال بتحقّق ما يقتضيها، وقضاء الضرورة بصدور مثل هذه الأقوال والأفعال منهم أحياناً من باب التقيَّة على تقدير مخالفتهم في الرأي.
والخلاصة: أنَّ سواد المخالفِين يعرِفون أنَّ وقت المغرب عند الشيعة يُعرف بذهاب الحمرة المشرقيَّة فضلاً عن الموافقين، كما أنَّ سوادنا بالعكس، حيث يعرِفون أنَّ وقت الغروب عند المخالفِين يُعرَف بسقوط القرص، حتَّى أنَّهم إذا أرادوا معرفة الرجل من أيِّ الفريقين امتُحِن بصلاته وإفطاره.
وأمَّا كثرة الأخبار الواردة في القول الثاني: فهي ليست شاهداً لهم، بل عليهم، لأنَّ أمر التقيَّة في المقام يقضي بورود أكثر من تلك النصوص، ضرورة كونه من الأمور الظاهرة التي تتكرّر في كلِّ يوم، ولا يسع التخفي بها، فحفظوا أنفسهم S وشيعتهم أيدهم الله تعالى بذلك.
هذا، وقد ذكر السيِّد محسن الحكيم في المستمسك بعد أن سَرَد أخبارَ القولِ الثاني قال: «وعليه، فتجوز الصَّلاة بمجرد عدم رؤية القرص، إذ لم يُعلم أنَّه خلفَ جبلٍ، أو نحوه، ويدلّ عليه: صحيح حريز عن أبي أسامة، أو غيره، قال: صعدت مرَّةً جبل أبي قبيس، (أو غيره)، والنَّاس يصلُّون المغرب، فرأيت الشَّمس لم تغب، إنَّما توارت خلف الجبل عن النَّاس، فلقيت أبا عبد الله عليه السلام فأخبرته بذلك، فقال لي: ولِمَ فعلتَ ذلك؟! بئسَ ما صنعتَ، إنَّما تصلِّيها إذا لم ترَها خلف جبل غابت أو غارت، ما لم يتجلّلها سحاب، أو ظلمة تظلّها، وإنَّما عليك مشرقك ومغربك، وليس على الناس أن يبحثوا»[ii]f248، ثم قال: «هجره مانع عن العمل به، فيتعين طرحه...».
وفيه أوَّلاً: أنّ الرواية لها طريقان:
أحدهما: طريق الشيخ، وهي بهذا الطريق ضعيفة بالإرسال، لأنّ الرواي أبو أسامة، أو غيره، ولم يعلم أنّه أبو أسامة، أو غيره.
وثانيهما: طريق الصدوق، وهي ضعيفة بأبي جميلةٍ المفضَّلِ بن صالحٍ، الواقع في طريق الصدوق إلى أبي أسامةَ زيدِ الشحَّام.
وثانياً: أنّ مفاد هذه الرواية تحقّق الغروب بمجرد غيبوبة القرص عن النظر، سواء غابت عن الأفق، أم لم تغب.
وعليه، فهذه الرواية مخالفة لجميع الأخبار المتقدِّمة، ومن هنا تسقط عن الحجية وإن كان سندها معتبراً لأنَّها مخالفة للسُنَّة القطعيّة.
والخلاصة: أنَّ الأقوى هو القول الأوَّل، أي: ما كانت العِبرةُ فيه بذهاب الحمرة المشرقية، مضافاً إلى كونه موافقاً للاحتياط، والأخبار الدَّالة على القول الثاني مخالفة للاحتياط.
ثمَّ إنَّ مقتضى ما اخترناه من كون الغروب يتحقق بذهاب الحمرة المشرقيَّة : هو جواز الإتيان بالظهرَيْن بعد استتار القرص، وقبل تجاوز الحمرة، إلاَّ أنَّ الأحوط وجوباً عدم تأخير الظهرين إلى ما بعد استتار القرص، والله العالم بحقائق أحكامه.
(1) لا يخفى أنَّ الكلام عن الوقت الاختصاصي لصلاة المغرب من أوَّلِه بمقدارِ ثلاثِ ركعاتٍ، أو بمقدار إتيانها، ولصلاة العِشاء من آخره بمقدار أربع ركعات، أو بمقدار إتيانها هو الكلام في الظهرين.
وقد تقدَّم فراجع، ولسنا بحاجة للإعادة، وسنذكر بعض الكلام إن شاء الله عن أوَّل وقت العشاء عند الكلام عن انتهاء وقتها.
[i] الوسائل باب 16 من أبواب المواقيت ح17.
[ii] الوسائل باب 20 من أبواب المواقيت ح2.
|