هذا، وقدِ استُدلّ للقول بالشرطيَّة بعدَّة أمور:
الأوَّل: أنَّ الشَّرط ما يتوقَّف عليه تأثير المؤثِّر، أو ما يتوقَّف عليه صحَّة الفعل، والمعنيان موجودان في النيَّة.
وأجيب عنه: بأنَّ النيَّة، وإن توقف عليها تأثير المصلِّي في جعل الأفعال متعبّداً بها، أو توقَّف عليها صحَّة الفعل، بمعنى استتباع غايته من الثواب، إلاَّ أنّ ذلك لا ينافي جزئيّتها، لأنَّ سائر الأجزاء التي هي كذلك تتوقَّف عليها الصَّلاة في صحتها، وفي جعل أفعالها متعبّداً بها شرعاً توقّف معيَّة، فلِمَ لا تكون النية كذلك؟
الثاني: أنَّ أوَّل الصَّلاة التكبير والنيَّة مقارنة أو سابقة، فلا تكون جزءاً.
وأجيب عنه: بأنَّه مصادرة على المطلوب، إذ بعد التسليم بكون الرِّواية المشهورة أوَّلها التكبير وآخرها التسليم، لا أوَّلها التحريم، فإنَّه يقال: إنَّ ذلك لا ينافي دخولها في الصَّلاة أيضا، باعتبار مقارنتها للتكبير مقارنة معيَّة، لا سبق ولحوق، على أنَّه يمكن كون المراد أوَّل الأفعال الظَّاهرة، لا ما يشمل القلبي.
الثالث: أنَّها لو كانت جزءاً لافتقرت إلى نيَّة أخرى فيتسلسل.
وقيل: بمنع الملازمة.
ومستند المنع: أنَّ قولنا الجُزء من العبادة يفتقر إلى نيَّة ليس قضية كليّة، بل تخرج عنها النيَّة.
والإنصاف: أنَّ هذا الجواب في غير محلِّه، إذ لا دليل على خروج النيَّة عن ذلك على القول بالجزئيَّة، إذ ما الفرق بينها وبين غيرها من الأجزاء؟
الرابع: أن النيَّة تتعلّق بالصَّلاة، فلو كانت جزءاً منها لتعلّق الشَّيء بنفسه.
وأجيب عنه: بأنَّه لما كانت النيَّة لا تحتاج إلى نيَّة أخرى كان متعلّقها بقيَّة أجزاء الصَّلاة فلا تتعلَّق بنفسها.
والإنصاف: أنَّ هذا الجواب إنَّما يصحّ لو صحّ القول بعدم احتياج النيَّة إلى نيَّة أخرى، وقد عرفت ما فيه.
الخامس: حسنة أبي حمزة عن عليّ بن الحسين N «قال: لا عمل إلاَّ بنيَّة»[i]f483، فإنَّها تدلّ على مغايرة العمل للنية.
وأُجيب عنه: بأنَّ المغايرة حاصلة بين جُزء الماهية وكلّها ضرورة، ولا يلزم منها الشَّرطيَّة.
والإنصاف: أنَّه مع قطع النظر عن هذه الأدلَّة وأجوبتها فإنَّ القول بالشرطيَّة هو الأقوى، إذ هي شرط للصَّلاة كغيرها من التكاليف التعبديَّة التي تتوقَّف صحتها على حصولها بقصد الإطاعة، ضرورة اشتراط صدور أفعال الصلاة عن قصد الإطاعة، وعدم كونها تكاليف توصليَّة، فلو صدر شيء منها بلا قصد، أو بقصد شيء آخر غير إطاعة الأمر بالصلاة،لم تصح، فالنيَّة شرط في صحَّة سائر الأجزاء قطعاً، والله العالم.
ثمَّ لا يخفى عليك أنَّ هذه المسألة أي كون النيَّةِ جزءاً أو شرطاً لا فائدة عمليَّة من تحقيقها، لأنَّ اعتبارها في الصَّلاة، بحيث تبطل بالإخلال بها عمداً وسهواً، ثابت بناءً على كِلا القولين.
نعم، قد تظهر الفائدة نادراً فيما لو نذر الصَّلاة في وقت معين فاتفق التكبير لأوّله فإنْ جعلناها شرطاً برئ، وإلاَّ فلا، والله العالم بحقائق أحكامه.
(1) قال المصنِّف R في الذكرى: «النيَّة قصد، ومتعلّقه المقصود، فلا بدَّ من كونه معلوماً، فيجب إحضار ذات الصَّلاة وصفاتها الواجبة من التعيين والأداء، أو القضاء والوجوب، للتقرب إلى الله تعالى، ثمَّ يقصد إلى هذا المعلوم؛ وتحقيقه: أنَّه إذا أُريد نيَّة الظُّهر مثلاً فالطريق إليها إحضار المنوي بمميزاته عن غيره في الذهن، فإذا حضر قصد المكلَّف إلى إيقاعه تقرباً إلى الله، وليس فيه ترتيب بحسب التصوُّر، وإن وقع ترتيب فإنَّما هو بحسب التعبير عنه بالألفاظ، إذ من ضروراتها ذلك، فلو أنَّ مكلَّفاً أحضر في ذهنه الظُّهر الواجبة المؤدَّاة، ثمَّ استحضر قصد فعلها تقرُّباً وكبَّر كان ناوياً...».
هذا، وقد ذكرنا في مبحث الوضوء كلاماً مفصلاً عن معنى النيَّة، وكلّ ما يتعلَّق بها، بحيث لم يبقَ شيء إلاَّ وذكرناه.
وخلاصته: أنَّ النيَّة لغةً وعرفاً هي إرادةُ الشَّيء والعزم عليه، وبها يكون الفعل فعلَ مختارٍ، وهي عند الشَّارع كذلك، إذ لم تثبت لها حقيقة شرعيَّة؛ وأمَّا ما اعتُبِر فيها من بعض القيود فلا يكون داخلاً في حقيقتها.
وبالجملة، فإنَّ الأمر في النيَّة سهل، إذ كلّ فعل من أفعال العقلاء الصَّادر منهم بالاختيار لا يخلو منها، بل هي بديهيَّة لارتكازها في الأذهان، ولا ينفكّ عنها فِعْل الفاعل المختار، بل لو كلّفنا الله الفعل بغير نيَّة لكان تكليفاً بالمحال.
فالتحقيق: أنَّها غنية عن البيان؛ ومن هنا لم يذكرها المتقدِّمون.
وعليه، فإنَّ كلَّ عاقلٍ غير غافل ولا ذاهل لا يصدر عنه فعل من الأفعال الاختياريَّة إلاَّ مع قصدٍ ونيَّةٍ سابقة عليه، ناشئة من تصوُّر ما يترتَّب على الفعل من الأغراض الباعثة عليه.
ثمَّ إنَّه نُسِب إلى المشهور أنَّ النيَّة عندهم هي الصورة المخطِرة بالبال، وأنَّها حديث نفسيّ وتصوير فكريّ، وذلك بأنْ يُحضِر المصلِّي مثلاً عند إرادة الدخول في الصَّلاة ما يترجمه بقوله: أُصلِّي فرض الظُّهر أداءً لوجوبه قربةً إلى الله تعالى، فإنَّه يُحضِر ذلك بباله وينظر إليه بفكره، وهذا ما يعبَّر عنه بالنيَّة المخطرة بالبال، فيأتي بعد الفراغ من تصويره بلا فصل بتكبيرة الإحرام.
والإنصاف: أنَّ الصَّورة المخطرة بالبال مقدّمة للنيَّة، لا نفسها، فالنيَّة عبارة عن الإرادة المنبعثة عن تصوُّر الفِعْل وغايته.
وقد عرفت أنَّ القدماء من الأصحاب تركوا التعرُّض للنيَّة، واكتفوا بذكر اعتبار الإخلاص في العبادة عنها، وكذلك النصوص البيانيَّة للصَّلاة والوضوء وغيرهما من العبادات، فإنَّها خالية عن ذكر النيَّة، وما ذلك إلاَّ لأنَّ النيَّة فيها كالنيَّة في غيرها من أفعال العقلاء.
وأمَّا حسنة أبي حمزة عن عليٍّ بن الحسين N «قال: لا عَمَلَ إلاَّ بنيَّةٍ»[ii]f484، فهي، إن لم تكن دالَّةً على صِدْق النيَّة على القصد الخالي عن الإخلاص، فلا دلالة فيها على خلافه.
[i] الوسائل باب 5 من أبواب مقدِّمة العبادات ح1.
[ii] الوسائل باب 5 من أبواب مقدِّمة العبادات ح1.
|