ومنها: الأخبار الكثيرة الآمرة بقطع الصَّلاة عند نسيان الإقامة وحدها أو مع الأذان، والتي سنذكرها إن شاء الله تعالى .
ووجه الاستدلال فيها لوجوب الإقامة من جهتين:
الأُولى: اشتمالها على لفظ الأمر الظَّاهر في الوجوب.
وفيه: أنَّ الأمر محمول على الجواز أو الاستحباب جمعاً بين الأخبار الظَّاهرة في الوجوب، وبين ما دلَّ على المضي في الصَّلاة، كصحيحة زرارة «قال: سألتُ أبا جعفر N عن رجلٍ نسي الأَذان والإِقامة حتَّى دخل في الصَّلاة، قال: فليمضِ في صلاته فإنَّما الأذان سنَّة»[i]f419، وكذا غيرها من الرِّوايات.
الثانية: أنَّها لو لم تكن واجبةً لَمَا استُبِيح بها حرمة قطع الصَّلاة.
وفيه مع قطع النَّظر عن عدم ثبوت حرمة قطع الصَّلاة، فإنَّما احتطنا فيها فقط أنَّه يجوز قطع الصَّلاة لفائدة دنيويَّة، كحفظ المال ونحوه، فلا مانع من أن يجوز ذلك لتحصيل فضيلة الأَذان والإقامة.
ومنها : موثَّقة عمَّار السَّاباطي عن أبي عبد الله N «قال: إذا قُمْت إلى صلاةِ فريضةٍ فأذِّن وأقِم، وافصِل بين الأَذانِ والإِقامةِ بقعود، أو بكلام، أو بتسبيح»[ii]f420، والأمر ظاهر في الوجوب.
نعم، يرفع اليد عن الوجوب في الأَذان، وفي الفصل بينهما، لِمَا دلَّ على جواز الترك فيهما.
وعليه، فيحمل الأمر فيهما على الاستحباب، ويبقى في الإِقامة على ظاهره من الوجوب، ولا مانع من التفكيك كما تقدم في أكثر من مناسبة.
وليس استعمال صيغة الأمر فيهما من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى، لِمَا عرفت من أنَّ صيغة الأمر ليست موضوعةً للوجوب أو للاستحباب، واستفادة الوجوب والندب إنَّما هي بحكم العقل، فراجع ما ذكرناه في علم الأصول.
والإنصاف: أنَّ هذه الموثَّقة يستفاد منها الوجوب.
نعم، يرفع اليد عن ظهورها في الوجوب، ويحمل على الاستحباب لِمَا سنذكره إن شاء الله تعالى من الأدلَّة الدَّالَّة على استحباب الإِقامة.
وذكر السَّيد أبو القاسم الخوئي (قدِّس سرُّه الشَّريف) أنَّ أحسن دليل يمكن أن يستدلّ به لوجوب الإقامة صحيحة زرارة الواردة في القضاء، عن أبي جعفر N في حديث «قال: إذا كان عليك قضاءُ صلواتٍ فابدأ بأوَّلهنّ فأذِّن لها وأقم، ثمَّ صلِّها، ثمَّ صلِّ ما بعدها، فإقامة إقامة لكلِّ صلاة»[iii]f421، فإنَّه إذا وجبت الإقامة لصلاة القضاء كما هو ظاهر الصحيحة ففي الأداء بطريق أولى، ولم أرَ من استدلَّ بها في المقام، مع أنَّها أولى من كلِّ دليل، وأحسن من جميع الوجوه المتقدِّمة...».
أقول: لا ظهور لهذه الصحيحة والتي هي على مبنانا حسنة على الوجوب، فضلاً عن أن تكون أحسن دليل، وذلك لأنَّها واردة في كيفيَّة القضاء، وأنَّه إذا أراد الإنسان أن يقضي ما عليه فيؤذِّن أذاناً واحداً لكلِّ ورد، ثمَّ إقامة إقامة لكلِّ صلاة.
وأمَّا أنَّ الأَذان والإِقامة واجبَيْن أو مستحبَّيْن فهو غير منظور إليه.
وبالجملة، فهي واردة في تعليم زرارة كيفيَّة القضاء، وأنَّه هل يأتي في الورد الواحد بأذان وإقامة لكلِّ صلاةٍ، أم يكفيه أذان واحد، هذا مع قطع النَّظر عن أنَّهما واجبان أو مستحبَّان.
ثمَّ إنَّه لو فرضنا دلالة الأدلَّة المتقدِّمة على الوجوب، إلاَّ أنَّها معارَضة بما دلَّ على الاستحباب:
منها: الرِّوايات الكثيرة الدَّالة على أنَّ مَنْ صلَّى مع الأَذان والإِقامة صلَّى خلفه صفّان من الملائكة، ومَنْ صلَّى مع الإِقامة وحدها صلَّى خلفه صفّ واحد، وقد تقدَّم بعضها فلا حاجة لإعادتها.
وهذه الرِّوايات لها ظهور قويّ في استحباب الأذان والإقامة، وأنَّ الفائدة منها هي اقتداء الملائكة بالمصلّي، بحيث تكون الصلاة مشتملةً مع اقتداء الملائكة على أجر عظيم.
وأمَّا إذا خلت منهما فتكون فاقدةً لصفة الكمال، فكأنَّه قيل: ومَنْ صلَّى بلا إقامة لم يصلِّ خلفه أحد، فلا موجب حينئذٍ لبطلان الصَّلاة.
والإنصاف: أنَّ هذا من أقوى الأدلَّة على عدم وجوب الإِقامة.
ومنها: ما ذكره صاحب المدارك من صحيحة حمَّاد بن عيسى المتضمنة لتعليم الإمام الصَّادق N لحمَّاد الصَّلاة، حيث إنَّه N قام «مستقبِل القبلة منتصباً...، واستقبل بأصابع رجليه جميعاً لم يحرفهما عن القِبلة بخشوع واستكانة فقال: الله أكبر، ثمَّ قرأ الحمد بترتيل...»[iv]f422.
ثمَّ قال صاحب المدارك R: «ولو كان الأَذان والإقامة واجبَيْن لذُكِرا في مقام البيان».
ويرد عليه: أنَّ الصَّحيحة واردة فيما يتعلَّق بنفس الصَّلاة من الأجزاء والمستحبات والآداب، أي ما كان منها ما بين التكبير والتسليم، وليست في مقام بيان الخارج عن الصَّلاة من الواجبات والمستحبات، وإلاَّ لما كان هناك عذر في ترك الأَذان والإقامة، لاسيَّما الإِقامة، فكيف يتركها الإمام N بلا عذر؟!
[i] الوسائل باب 29 من أبواب الأذان والإقامة ح1.
[ii] الوسائل باب 11 من أبواب الأذان والإقامة ح4.
[iii] الوسائل باب 37 من أبواب الأذان والإقامة ح1.
[iv] الوسائل باب 1 من أبواب أفعال الصلاة حديث 1.
|