الدليل الثاني: ما ذكره صاحب الجواهر R من أنَّ «ظاهر الأدلَّة كون الخطاب بالأَذان الصَّلاتي، كخطاب الصلاة وقنوتها وتعقيبها، يراد منه المباشرة من المكلفِين».
وعليه، فلا يصحّ الإجارة عليه.
وفيه: أنَّ ذلك يتمّ لو وقعت الإجارة على الأَذان بعنوان النيابة.
أمَّا لو كانت على الأذان المأتي به لصلاة الأجير لغرضٍ للمستأجر في ذلك، كأن يريد أن يصلِّي بصلاته، أو نحو ذلك من الأغراض الدنيويَّة والأخرويَّة، فلا يتمّ ذلك.
والخلاصة: أنَّ مقتضى القاعدة عدم حرمة أخذ الأجرة على الأذان الصَّلاتي.
وأمَّا الأذان الإعلامي: فلا إشكال في جواز أخذ الأجرة عليه، إذ لا يشترط فيه قصد التقرُّب حتَّى يتنافى ذلك مع الدليل الأوَّل الذي ذكر لحرمة أخذ الأجرة على الأذان الصَّلاتي، كما أنَّه لا ريب في عدم ظهور الأدلَّة في اعتبار المباشرة فيه حتَّى يتنافى ذلك مع الدليل الثاني الذي ذكر لحرمة أخذ الأُجرة على الأَذان الصَّلاتي.
وعليه، فيبقى عموم جواز الإجارة بحاله، إذ هي من الأفعال السَّائغة المترتّب عليها نفع، ولا يجب على المكلَّف فِعْله، بل هو مستحبّ كفائيّ، بخلاف أَذان الصَّلاة فإنَّه مستحبّ عينيّاً، هذا بالنسبة إلى الأمر الأوَّل فيما تقتضيه القاعدة.
وأمَّا الأمر الثاني: فقد استدلّ للحرمة ببعض الرِّوايات:
منها: معتبرة السّكوني عن جعفر عن أبيه عن علي S «قال: آخر ما فارقت عليه حبيب قلبي أَنْ قال: يا عليّ! إذا صلَّيت فصلِّ صلاة أضعف من خلفك، ولا تتّخذنّ مؤذِّناً يأخذ على أذانه أجراً»[i]f395، وهي معتبرة، وقد عرفت حال السّكوني والنوفلي فلا حاجة للإعادة.
ورواها أيضاً الشَّيخ الصَّدوق R في الفقيه مرسلة.
ولكنْ في دلالتها على الحرمة خدشة، إذ المنع عن اتِّخاذ المؤذِّن الذي يأخذ الأجر أعمّ من الحرمة، لأنَّ الممنوع فيها هو الاتّخاذ الظَّاهر في كونه على سبيل الدوام والاستمرار، فلا يشمل الاستئجار أحياناً.
ومنها: مرسلة الفقيه «قال: وأتى رجل أمير المؤمنين N فقال: يا أمير المؤمنين N: والله! إنّي لأحبّك، فقال له: ولكنّي أبغضك، قال: ولم؟! قال: لأنَّك تبغي في الأَذان كَسْباً وتأخذ على تعليم القرآن أجراً»[ii]f396، وهي ضعيفة بالإرسال.
وقد رواها الشَّيخ[iii]f397 مسندة مع فارق يسير لا يضرّ بالمراد، ولكن في السَّند عبد الله بن منبّه، وهو غير موثَّق.
وذكر بعضهم أنَّ الاسم مقلوب، أي المنبّه بن عبد الله، ولكنَّه أيضاً غير موثَّق.
وأمَّا قول النجاشي R عن المنبَّه بن عبد الله: «أنَّه صحيح الحديث» فقد ذكرنا أنَّ الصحَّة عند المتقدِّمين بمعنى صدور الحديث لقرائن دلَّت على ذلك، وهي أعمّ من التوثيق.
وأمَّا توثيق العلاَّمة R له فلا يفيد لأنَّه من المتأخِّرين، هذا بالنسبة للسَّند.
وأمَّا دلالتها: فغير تامَّة أيضاً، لأنَّ ابتغاء الكسب يشمل الأَذان بداعي الارتزاق من بيت المال، وقد عرفت أنَّه لا إشكال في الارتزاق.
وأمَّا قول السَّيد أبو القاسم الخوئي R: «بأنَّ الارتزاق لا يعدّ كَسْباً ومعاوضة، لأنّ المرتزق من بيت مال المسلمين لا يأخذ الرِّزق في مقابل عمله» فغريب، إذ لا فرق بين الإجارة والارتزاق إلاَّ في احتياج الأُولى إلى ضبط المقدار والمدّة ونحوهما ممَّا يعتبر في الإجارة، بخلاف الارتزاق المنوط بنظر الحاكم، ولا يقدح فيه قصد المؤذِّن الرُّجوع بعوض أَذانه عليه، إلاَّ أن عوضه الارتزاق المزبور، كالقاضي والمترجم وكاتب الديوان، ونحوهم من القائمين بمصالح المسلمين، ولا يعتبر في المرتزق الفقر والحاجة.
ومنها: ما عن دعائم الإسلام عن عليّ N «أنَّه قال: من السُّحت أجر المؤذِّن»[iv]f398، ولولا ضعفه بالإرسال لكان من أقوى الأدلَّة على الحرمة، لأنَّ السُّحت هو الحرام الشَّديد.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ مقتضى الصِّناعة العلميَّة جواز أخذ الأُجرة على الأَذان، إلاَّ أنَّ الأحوط وجوباً الترك، والله العالم.
[i] الوسائل باب 38 من أبواب الأذان والإقامة ح1.
[ii] الوسائل باب 38 من أبواب الأذان والإقامة ح2.
[iii] الوسائل باب 30 من أبواب يكتسب به ح1.
[iv] المستدرك باب 30 من أبواب الأذان والإقامة ح2.
|