(1) اِعلم أنَّ الفصل بين الأَذان والإقامة ليس واجباً باتِّفاق جميع الأعلام من المتقدِّمين والمتأخِّرين، وفي جميع الأعصار والأمصار.
وقد يشهد لذلك صحيحة عبد الله بن مسكان «قال: رأيتُ أبا عبد الله N أَذَّن وأقام من غير أن يفصل بينهما بجلوس»[i]f369، ولكن لا دليل فيها على ذلك، إذ يحتمل الفصل بغير الجلوس من خطوة أو سكتة أو تسبيحة، ونحوها.
وأمَّا ما في موثَّق عمَّار السَّاباطي عن أبي عبد الله N في حديثٍ «قال: سألتُه عن الرَّجل ينسى أن يفصل بين الأَذان والإقامة بشيءٍ حتَّى أخذ في الصَّلاة أو أقام للصَّلاة؟ قال: ليس عليه شيء، وليس له أن يدع ذلك عمداً.
سُئل: ما الذي يجزي من التسبيح بين الأَذان والإقامة؟ قال: يقول: الحمد ﷲ»[ii]f370، فمحمول على التأكُّد.
والخلاصة: أنَّ هناك تسالماً بين الأعلام على عدم الوجوب.
نعم، هو مستحبّ بلا إشكال.
قال المحقِّق R في المعتبر: «ويستحبّ الفصل بينهما بركعتين أو جلسة أو سجدة أو خطوة، خلا المغرب فإنَّه لا يفصل بين أَذانيها إلاَّ بخطوة أو سكتة أو تسبيحة، وعليه علماؤنا»، ونحوه العلاَّمة R في المنتهى.
وقال العلاَّمة R في التذكرة: «يستحبُّ الفصل بين الأَذان والإقامة بجلسة أو سجدة أو سكتة أو خطوة أو صلاة ركعتين في الظُّهرين، إلاَّ المغرب فإنَّه لا يفصل بينهما إلاَّ بخطوة أو سكتة أو تسبيحة عند علمائنا».
أقول: يستدلّ على استحباب الفصل بين الأَذان والإقامة بصلاة ركعتين ببعض الرِّوايات:
منها: صحيحة سُليمان بن جعفر الجعفري «قال: سمعته يقول: اِفرق بين الأَذان والإِقامة بجلوس أو بركعتين»[iii]f371، ولا يضرّها الإضمار.
ومنها: صحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله N، حيث ورد في الذَّيْل «وأمَّا السُّنة فإنَّه ينادى مع طلوع الفجر، ولا يكون بين الأَذان والإقامة إلاَّ الرّكعتان»[iv]f372، وهذه الرِّوايات دالَّة على استحباب الفصل بالرِّكعتين، سواء في الظُّهرين أم غيرها.
نعم، الأفضل أن يكون الفصل بينهما بركعتَيْن في الظُّهرين من سنّتهما، كما في رواية أبي علي صاحب الأنماط عن أبي عبد الله أو أبي الحسن J «قال: قال: يؤذِّن للظُّهر على ستٍّ ركعات، ويؤذِّن للعصر على ستٍّ ركعات بعد الظُّهر»[v]f373، ولكنَّها ضعيفة لِجهالة أبي علي صاحب الأنماط، الذي لم يعرف اسمه حتى.
وأمَّا استحباب الفصل بالسَّجدة: فقد ذكر جماعة من الأعلام أنَّه لم يظفر له بمستند حتَّى علّلوه بأنَّ السَّجدة جلسة وزيادة راجحة.
وقد يستدلّ له بما عن فلاح السَّائل لرضي الدِّين بن طاووس بإسناده عن هارون بن موسى، عن الحسن بن حمزة العلوي، عن أحمد بن بندار (ما بنداد) عن أحمد بن هليل الكرخي، عن ابن أبي عمير، عن بكر بن محمَّد عن أبي عبد الله N «قال: كان أمير المؤمنين N يقول لأصحابه: مَنْ سجد بين الأَذان والإِقامة، فقال في سجوده: سجدت لك خاضعاً خاشعاً ذليلاً، يقول الله: ملائكتي! وعزّتي وجلالي لأجعلن محبّته في قلوب عبادي المؤمنين وهيبته في قلوب المنافقين»[vi]f374، ولكنَّها ضعيفة من جهتين:
الأُولى: بالإرسال، حيث لم يذكر ابن طاووس R طريقه إلى هارون بن موسى.
والجهة الثانية: أحمد بن بندار، وأحمد بن هليل الكرخي.
وأمَّا الفصل بالجلوس أو الكلام أو التسبيح فيدلّ عليه موثَّقة عمَّار السَّاباطي عن أبي عبد الله N «قال: إذا قمت إلى صلاة فريضة فأذَّن وأقم، وافصِل بين الأَذان والإِقامة بقعود أو بكلام أو تسبيح»[vii]f375.
ويدلّ على خصوص الجلوس رواية ابن فرقد عن أبي عبد الله N «قال: بين كلّ أَذَانين قِعدة إلاَّ المغرب فإنَّ بينهما نفساً»[viii]f376، وهي ضعيفة بالإرسال، والمراد بالنفس: السَّكتة.
وموثَّقة إسحاق الجريري عن أبي عبد الله N «قال: قال مَنْ جلس فيما بين أَذان المغرب والإقامة كان كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله»[ix]f377، وسعدان بن مسلم الموجود في السَّند من المعاريف ما يكشف عن وثاقته.
ولعلَّ الجلوس هنا محمول على الجلوس الخفيف.
ويدلّ على استحباب الفصل بالجلوس مع الدّعاء رواية الحسن بن معاوية بن وهب عن أبيه «قال: دخلتُ على أبي عبد الله N وقت المغرب، فإذا هو قد أَذَّن وجلس، فسمعته يدعو بدعاءٍ ما سمعت بمثله، فسكتُّ حتَّى فرغ من صلاته، ثمَّ قلت: يا سيدي! لقد سمعت منك دعاءً ما سمعت بمثله قط! قال: هذا دعاء أمير المؤمنين N ليلة بات على فراش رسول الله C، وهو: يا من ليس معه ربّ يدعى! يا مَنْ ليس فوقه خالق يخشى! يا مَنْ ليس دونه إله يتَّقى! يا مَنْ ليس له وزير يغشى! يا مَنْ ليس له بوّاب ينادى! يا مَنْ لا يزداد على كثرة السؤال إلاَّ كرماً وجوداً! يا من لا يزداد على عظم الجرم إلاَّ رحمةً وعفواً! صلِّ على محمد وآل محمَّد، وافعل بي ما أنت أهله، فإنَّك أهل التقوى وأهل المغفرة، وأنت أهل الجود والخير والكرم»[x]f378، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال لِعدم ذكر ابن طاووس طريقه إلى هارون بن موسى التلعكبري، بعدم وثاقة الحسن بن معاوية بن وهب.
[i] الوسائل باب 11 من أبواب الأَذان والإقامة ح9.
[ii] الوسائل باب 11 من أبواب الأَذان والإقامة ح5.
[iii] الوسائل باب 11 من أبواب الأَذان والإقامة ح2.
[iv] الوسائل باب 8 من أبواب الأَذان والإقامة ح7.
[v] الوسائل باب 39 من أبواب الأَذان والإقامة ح5.
[vi] الوسائل باب 11 من أبواب الأَذان والإقامة ح14.
[vii] الوسائل باب 11 من أبواب الأَذان والإقامة ح4.
[viii] الوسائل باب 11 من أبواب الأَذان والإقامة ح7.
[ix] الوسائل باب 11 من أبواب الأَذان والإقامة ح10.
[x] المستدرك باب 11 من أبواب الأَذان والإقامة ح1.
|