ولكن المحقّق الهمداني R له رأي آخر، حيث قال: «فالترتيب بين الأَذان والإِقامة ليس إلاَّ كالترتيب بين الفرائض اليوميَّة ونوافلها أو الترتيب بين نافلة الليل وركعات الوتر ونافلة الفجر، وغير ذلك من التكاليف المرتبة التي يجوز للمكلِّف الإتيان بالمتأخِّر ابتداءً عند إرادة ترك المتقدِّم فالإشكال في مثل هذه الموارد إنَّما هو في جواز تدارك المتروك بعد الإتيان بما تأخَّر عنه في الرتبة، حيث إنَّ قضية الترتيب فيما بينهما تعذّره بفوات محله، ولكن مقتضى استصحاب بقاء التكليف به جوازه وحصول الإجزاء بفعله المستلزم لسقوط شرطيَّة الترتيب فيما بينهما، ولكن لو أراد إحراز فضيلة حصولهما على الوجه الموظَّف فعليه إعادة المتقدَّم بعده لإدارك هذه الفضيلة لو قلنا بجواز الإعادة للإجادة، كما ليس بالبعيد، وإلاَّ فمقتضى الأصل عدم مشروعيِّتها».
ولكن الإنصاف: أنَّه لا يظهر من الأدلَّة كون الترتيب بين الأَذان والإِقامة كالترتيب بين الفرائض اليوميَّة ونوافلها، بل يظهر أنَّهما من قبيل الظُّهرين والعِشاءين، حيث إنَّ صحَّة العصر والعشاء مشروطة بالتأخُّر عن الظُّهر والمغرب، فلو قدَّم العصر عمداً بطلت، وكذا العشاء بالنسبة إلى المغرب.
نعم، التقدُّم السهوي فيهما لا بأس به للنصّ، وحديث (لا تُعاد الصَّلاة).
وعليه، فلو قدَّم الإِقامة، وأراد الإتيان بالأَذان بعدها، فإطلاقات أدلَّة الأَذان تشمله ويصحّ، ولكن عليه إعادة الإِقامة، كما ذكره صاحب الجواهر R إن أراد الحصول على الفضيلتَيْن، وذلك رعاية للترتيب بينهما، والله العالم.
(1) قال المصنِّف R في الذكرى: «وأمَّا الإِقامة فقال الشَّيخ: هي أفضل من الأَذان لقربها من الصَّلاة، ولقول الصَّادق N: «إذا أخذ في الإِقامة فهو في صلاة»، ولِشدَّة تأكيدها باعتبار الطهارة والقِيام، وشدَّة كراهة الكلام...» انتهى ما ذكره، وهو في محلّه.
وسيأتي ذكر الرِّوايات التي أشار إليها المصنِّف R، والتي منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر N «أنَّه قال: إذا أُقيمت الصَّلاة حرم الكلام على الإمام وأهل المسجد، إلاَّ في تقديم إمام»[i]f293.
وفي رواية أبي هارون المكفوف «قال: قال أبو عبد الله N: يا أبا هارون! الإِقامة من الصَّلاة، فإذا أقمت فلا تتكلّم ولا تؤمّ بيدك»[ii]f294، ولكنها ضعيفة لِعدم وثاقة كلٍّ من صالح بن عقبة وأبي هارون المكفوف، ووجودهما في كامل الزيارات لا ينفع لأنَّهما ليسا من مشايخه المباشرين.
(1) قال المصنِّف R في الذكرى: «وثبت أيضاً أنَّ رسول الله C أذَّن، وكان يقول: أشهد أنِّي رسول الله C، وتارة يقول: أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله C، وأنكر العامَّة أَذَانه C. نعم كان اشتغاله بالإمامة الدائمة يمنعه من ذلك، فإنَّها أفضل من الأَذان لِقوله C: «الأَئمة ضمناء والمؤذّنون أمناء»، فبدأ بالأَئمة والضامن أكثر عملاً من الأمين، فيكون أكثر ثواباً، ولأنَّ النَّبي C لم يكن ليترك الأفضل إلى غيره، وقوله C: «فأرشد الله الأَئمة وغفر للمؤذّنين»، لا يدلّ على أفضليّة الأَذان، لأنَّ دعاء النَّبي C لهم مستجاب، ومَنْ أُرشد فهو مستحقّ للمغفرة فقد جمع له بين الأمرين...»، والرِّواية النبويَّة[iii]f295 ضعيفة بالإرسال مرويَّة في عوالي اللآلي.
(2) قال ابن إدريس R في السَّرائر: «ويستحبّ للإمام أن يلي الأَذان والإِقامة ليحصل له الفضل وثواب الجميع، إلاَّ أن يكون أمير جيش، أو أمير سريّة، فالمستحبّ أن يلي الأَذان والإِقامة غيره، ويلي الإِقامة هو على ما اختاره شيخنا المفيد R في رسالته إلى ولده».
قال المصنِّف R في الذكرى بعد نقل كلامه : «قلتُ في استحباب هذا الجمع: نظر، لأنَّه لم يفعله النَّبي C إلاَّ نادراً، ولا واظب عليه أمير المؤمنين N ولا الصحابة ولا الأئمَّة بعدهم غالباً، إلاَّ أن نقول هؤلاء أُمراء جيوش أو في معناهم».
أقول: إطلاقات استحباب الأَذان والإِقامة تشمله وعدم فعل النَّبي C إلاَّ نادراً وعدم مواظبة الأمير N ولا الصحابة... لا تنفي الاستحباب، إذ لم يتضح سبب الترك، ولعلَّه لأمر قد خفي علينا، والله العالم.
(1) المعروف بين الأعلام استحباب حكاية الأَذان إذا سمعه، بمعنى أن لا يقصد بفعله إنشاء الأَذان، بل يقصد به الحكاية التي هي بمنزلة المخاطبة مع نفسه.
والمراد بالحكاية أن يقول: مثل ما قال المؤذِّن عند السماع من غير فصل معتدّ به.
وأمَّا الاستحباب فقد عرفت أنَّه المعروف عند الأعلام، بل في المدارك: «هذا مذهب العلماء كافةً، حكاه في المنتهى...».
وفي الجواهر: «إجماعاً بقسمَيْه، بل المنقول منهما متواتر أو مستفيض جدّاً، كالنصوص...»، وفي الذكرى: «يستحبّ حكايته للسامع إجماعاً...».
أقول: يدلّ على الاستحباب مضافاً للتسالم بين الأعلام الذي هو فوق الإجماع جملة من الرِّوايات:
منها: رواية محمَّد بن مسلم عن أبي جعفر N «قال: كان رسول الله C إذا سمع المؤذِّن يؤذِّن قال مثل ما يقوله في كلِّ شيء»[iv]f296، ولكنَّها ضعيفة، لأنَّ محمَّد بن إسماعيل الذي يروي عنه الكليني ليس هو ابن بزيع الثقة، بل الظاهر أنَّه البندقي النيشابوري المجهول، فالتعبير عنها بالصَّحيحة في غير محلِّه.
ومنها: صحيحة محمَّد بن مسلم عن أبي جعفر N «أنَّه قال له: يا محمَّد بن مسلم! لا تدعن ذكر اللهL، على كلّ حال، ولو سمعت المنادي ينادي بالأذان وأنت على الخلاء فاذكر اللهLوقل كما يقول المؤذِّن»[v]f297، وهي ضعيفة في الفقيه، لأنَّ إسناد الصَّدوق R إلى محمَّد بن مسلم فيه علي بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه، وهما غير مذكورَيْن، إلاَّ أنَّها صحيحة في العِلل، حيث رواها الشَّيخ الصَّدوق R عن محمَّد بن الحسن بن الوليد عن محمَّد بن الحسن الصفَّار عن يعقوب بن يزيد عن حمَّاد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن محمد بن مسلم.
ومنها: مرسلة الفقيه «قال: ورُوي أنَّ من سمع الأَذان، فقال كما يقول المؤذِّن، زِيد في رزقه»[vi]f298، وهي ضعيفة بالإرسال.
ومنها: صحيحة زرارة «قال: قلتُ لأبي جعفر N: ما أقول إذا سمعت الأذان؟ قال: أُذكر الله مع كلِّ ذاكر»[vii]f299، ولكن استفادة استحباب حكاية جميع الفصول حتَّى الحيعلات من هذه الصَّحيحة لا يخلو من تأمُّل.
ومنها: رواية سليمان بن مقبل المديني «قال: قلتُ لأبي الحسن موسى بن جعفر N لأيِّ علَّة يستحبُّ للإنسان إذا سمع الأَذان أن يقول كما يقول المؤذِّن وإن كان على البول والغائط؟! فقال: لأنَّ ذلك يزيد في الرِّزق»[viii]f300، وهي ضعيفة بجهالة أكثر من شخص.
وكذا غيرها من الأخبار، وظاهر هذه الرِّوايات المتقدِّمة استحباب حكاية جميع الفصول.
[i] الوسائل باب 10 من أبواب الأَذان والإِقامة ح1.
[ii] الوسائل باب 10 من أبواب الأَذان والإِقامة ح12.
[iii] المستدرك باب 3 من أبواب الأَذان والإِقامة ح1.
[iv] الوسائل باب 45 من أبواب الأَذان والإِقامة ح1.
[v] الوسائل باب 45 من أبواب الأَذان والإِقامة ح2.
[vi] الوسائل باب 45 من أبواب الأَذان والإِقامة ح4.
[vii] الوسائل باب 45 من أبواب الأَذان والإِقامة ح5.
[viii] الوسائل باب 8 من أبواب أحكام الخلوة ح3.
|