ومنها: رواية زرارة والفُضَيل بن يسار عن أبي جعفر N «قال: لمَّا أُسْري برسول الله C فَبَلغ البيت المعمور حضرت الصَّلاة فأَذَّن جبرائيل، وأقام، فتقدَّم رسول الله C، وصفَّ الملائكة والنبيِّون خَلْف رسول الله C قال: فقلنا له: كيف أَذَّن؟ فقال: الله أكبر الله أكبر، أشهد إلى أنْ قال: والإِقامة مثلها إلاَّ أنَّ فيها: قد قامتِ الصَّلاة، قد قامتِ الصَّلاة بين حيَّ على خير العمل، وبين الله أكبر، فَأَمَر بها رسول الله C بلالاً، فلم يَزْل يؤذَّن بها حتَّى قبض الله رسوله C»[i]f240، ولكنَّها ضعيفة، لأنَّ عليَّ بن السِّندي غير موثَّق.
ومنها: صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله N «قال: الأَذان مثنى مثنى والإِقامة، واحدة واحدة»[ii]f241.
أقول: سيأتي إن شاء الله تعالى أنَّه يمكن حمل الإِقامة واحدة واحدة على الاستعجال، أو التقيَّة.
والجمع العرفي يقتضي حَمْل ما دلَّ على الأقلّ على الإجزاء، وما دلّ على الأكثر أيّ: التكبير أربع مرات أوَّل الأذان على الأفضليَّة.
وربما يؤيِّده: ما عن الشَّيخ الصَّدوق R بإسناده عن الفضل بن شاذان فيما ذكره من العلل عن الرِّضا N «أنَّه قال: إنَّما أُمر النَّاس بالأَذان لِعِلل كثيرة، منها أن يكون تذكيراً للسَّاهي (للناس)، وتنبيهاً للغافِل (للغافلين) وتعريفاً لِمَنْ جهل الوقت واشتغل عنه، ويكون المؤذِّن بذلك داعياً إلى عبادةِ الخالق، ومرغِّباً فيها، (و) مقرِاً له بالتوحيد، مجاهِراً (مجاهداً) بالإيمان، معلِناً بالإسلام إلى أن قال: وجَعَل التكبير في أوَّل الأَذان أربعاً، لأنَّ أوَّل الأَذان إنَّما يبدو غفلةً، وليس قبله كلام ينبِّه المستمع له، فَجَعل الأوليان (الأوليّان) تنبيهاً للمستمعِين لِمَا بعده من الأَذان...»[iii]f242، وقوله: «جعل الأوليان» أي: التكبير مرتَيْن أوَّل الأَذان.
ولكنَّها ضعيفة، لأنَّ في السَّند عدَّة أشخاص ضعفاء.
هذا، وفي بعض الأخبار زيادة الفصول على الثمانية عشر، كما في مرسلة النهاية «قال: وقد رُوي اثنان وأربعون فصلاً، يضيف إلى ذلك التكبير في آخر الأَذان مرتَيْن، وفي آخر الإِقامة مرتَيْن»[iv]f243.
وفي مرسلة الشَّيخ R في المصباح «قال: ورُوي: اثنان وأربعون فصلاً، فيكون التكبير أربع مرات في أوَّل الأَذان وآخره، وأوَّل الإِقامة وآخرها، والتهليل مرتَيْن فيهما»[v]f244، ولكنَّهما ضعيفتان بالإرسال.
والخلاصة: أنَّ مقتضى الجمع العرفي حَمْل ما دلَّ على أنَّه مثنى منثى على الإجزاء، وما دلَّ على الأكثر على الأفضليَّة.
لكنَّ الإنصاف: أنَّه لولا تسالم الأصحاب، وعمل الشيعة في الأعصار والأمصار في اللّيل والنَّهار، في المجامع والجوامع، ورؤوس المآذن، على العدد المزبور، لكان القول: بأنَّ الأَذان مثنى مثنى، متِّجهاً، مع كون الأكثر هو الأفضل، والله العالم.
(1) هذا هو المشهور بين الأعلام، بل ادُّعِيَ عليه الإجماع.
ويدلُّ عليه من الأخبار: موثَّقة إسماعيل الجعفي المتقدِّمة[vi]f245، حيث دلَّت على أنَّ الإِقامة سبعة عشر حرفاً، المنطبقة على ما هو مرتكز في أذهان المتشرِّعة.
وأمَّا بقيَّة الرِّوايات:
فمنها: ما دلَّ على أنَّ الإِقامة مثنى مثنى، مثل صحيحة صفوان الجمَّال المتقدِّمة[vii]f246.
ومنها: ما دلَّ على أنَّها واحدة واحدة، مثل صحيح معاوية بن وهب[viii]f247.
ومنها: ما دلَّ على أنَّها مرة مرة، إلاَّ قول الله أكبر، فإنَّه مرتان، مثل صحيحة عبد الله سنان[ix]f248.
ومنها: ما دلَّ على أنَّها كالأَذان، إلاَّ في زيادة: قد قامتِ الصَّلاة، بعد بيان تثنية التكبير في أوَّله، والتهليل في آخره، كرواية زرارة والفُضَيل[x]f249، وقد عرفت أنَّها ضعيفة.
ومنها: ما دلَّ على أنَّها كالأذان، بعد بيان تربيع التكبير في أوَّله، وتثنية التكبير في آخره، كمعتبرة الحَضْرمي والأسدي[xi]f250.
ومنها: مرسلتا النهاية والمصباح[xii]f251.
هذا، والمعروف بين الأعلام أنَّ الجمع العرفي بين الرِّوايات المذكورة هو حَمْل ما دلَّ على الأقل على أقلِّ مراتب الفضل، وما دلَّ على الزائد عليه على الأفضليَّة على اختلاف مراتبه.
أقول: هذا الجمع، وإن كان هو مقتضى الصناعة العلميَّة، ويتعيَّن الأخذ به لولا التسالم بين الأعلام في جميع الأعصار والأمصار في اللّيل والنَّهار في المجامع والجوامع ورؤوس المآذن على العدد المعهود، وهو سبعة عشر فصلاً.
(1) قد عرفت الرِّوايات الدَّالة على ذلك، وقد تقدَّمت، وأغلبها ضعيفة السَّند، كما عرفت.
وقال الشَّيخ R في النهاية بعد ذكر الأَذان والإِقامة كما هو المشهور : «وهذا الذي ذكرناه من فصول الأَذان والإِقامة هو المختار المعمول عليه، وقد روي سبعة وثلاثون فصلاً في بعض الرِّوايات، وفي بعضها ثمانية وثلاثون فصلاً، وفي بعضها اثنان وأربعون فصلاً.
فأمَّا مَنْ روى سبعة وثلاثين فصلاً فإنَّه يقول في أوَّل الإِقامة: أربع مرات: الله أكبر، ويقول في الباقي: كما قدمناه.
ومن روى ثمانية وثلاثين فصلاً يضيف إلى ما قدمناه قول: لا إله إلا الله مرةً أخرى في آخر الإِقامة.
ومن روى اثنين وأربعين فصلاً فإنَّه يجعل في آخر الأَذان التكبير أربع مرات، وفي أوَّل الإِقامة أربع مرات، وفي آخرها أيضاً مثل ذلك أربع مرات، ويقول: لا إله إلا الله مرتَيْن في آخر الإِقامة، فإنْ عمل عامل على إحدى هذه الرِّوايات لم يكن مأثوماً».
ولكنك عرفت ما هو مقتضى الإنصاف في المقام.
نعم، لا بأس بالإتيان بما ذكره برجاء المطلوبية، والله العالم.
(1) قال الشَّيخ الصَّدوق R في الفقيه بعد نقل رواية أبي بكر الحَضْرمي وكُلَيْب الأسدي «قال مصنِّف هذا الكتاب: هذا هو الأَذان الصَّحيح، لا يزاد فيه ولا ينقص منه، والمفوِّضة لعنهم الله قد وضعوا أخباراً، وزادوا بها في الأذن (محمّد وآل محمد خير البرية) مرتَيْن، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أنَّ محمداً رسول الله أشهد أنَّ عليّاً وليّ الله مرتَيْن، ومنهم مَنْ روى بدل ذلك: أشهد أنَّ عليّاً أمير المؤمنين حقّاً مرتَيْن، ولا شكَّ في أنَّ عليّاً وليّ الله، وأنَّه أمير المؤمنين حقّاً، وأنَّ محمَّداً وآل محمَّد C خَيْر البريَّة، ولكن ليس ذلك في أصل الأَذان، وإنَّما ذكرت ذلك ليُعرف بهذه الزِّيادة المتّهمون بالتفويض المدلِّسون أنفسهم في جملتنا».
وقال الشَّيخ R في المبسوط: «فأما قول: أشهد أنَّ عليّاً أمير المؤمنين، وآل محمَّد خير البريَّة، على ما ورد في شواذّ الأخبار فليس بمعمول عليه في الأَذان، ولو فعله الإنسان لم يأثم به، غير أنَّه ليس من فضيلة الأَذان، ولا كمال فصوله».
وقال R في النهاية: «فأمَّا ما روي في شواذِّ الأخبار من قول: أنَّ عليّاً وليّ الله، وأنَّ محمداً وآله خير البشر، فممَّا لا يُعمل عليه في الأَذان والإِقامة، فمَنْ عمل به كان مخطئاً»، وقال العلاَّمة R في المنتهى: «وأمَّا ما رُوي في الشاذِّ من قول: أنَّ عليّاً وليّ الله، وآل محمَّد خَيْر البريَّة، فممَّا لا يعوَّل عليه...».
أقول: قد يُقال: إنَّه ما المانع من الالتزام بكون ما تضمنته هذه المراسيل من الشَّهادة بالولاية، وأنَّ محمداً وآله خَيْر البرية من الأجزاء المستحبَّة للأَذان والإِقامة لقاعدة التسامح؟!
وفيه أوَّلاً: أنَّ قاعدة التسامح غير ثابتة، كما نبهنا في أكثر من مناسبة.
وثانياً: لو قلنا بها إلاَّ أنَّه هنا لا يصحّ الاعتماد عليها، لِمَا ذَكَره الشَّيخ الصَّدوق R من أنَّ هذه الأخبار من وضع المفوضة، مع رميها بالشُّذوذ من الشَّيخ الطوسي والعلامة رحمهما الله.
ومن هنا تعرف أنَّ ما ذكره المجلسيّ R من قوله: «لا يبعد كون الشَّهادة بالولاية من الأجزاء المستحبَّة للأذان، لِشهادة الشَّيخ والعلاَّمة والشَّهيد، وغيرهم، بورود الأخبار بها»، وأيَّده بما في خبر القاسم بن معاوية، المروي في احتجاج الطبرسي عن أبي عبد الله N «... فإذا قال أحدكم: لا إله إلاَّ الله محمَّد رسول الله، فَلْيقل: عليّ أمير المؤمنين»[xiii]f252 في غير محلِّه.
أمَّا الأخبار المُشَار إليها: فمع ضعفها بالإرسال قد شهد الشَّيخ الصَّدوق R بوضعها من قِبَل المفوِّضة.
وأمَّا خبر القاسم بن معاوية فهو دالّ على الرجحان بالعموم، إذ لم يذكر فيه كونه في الأَذان، بل هو عامّ يشمل الأَذان والإِقامة وغيرهما، ولكنَّه ضعيف بالإرسال.
نعم، هو يصلح للتأييد بعد وجود الدَّليل، وبما أنَّ الدَّليل غير تامّ، فلا معنى للتأييد حينئذٍ.
والإنصاف: أنَّ الشَّهادة لأمير المؤمنين N بالولاية في الأَذان أصبح في هذه الأيام من شعائر الإيمان، فيُؤجَر عليه الإنسان، ولكن لا يأتي بها بقصد الجزئيَّة، وإلاَّ كان تشريعاً محرماً.
ثمَّ المراد بالمفوِّضة الذي أشار إليهم الشَّيخ الصَّدوق R هم القائلون بأنَّ اللهLفوَّض خَلْق الدنيا إلى محمَّد C، وعليّ N.
[i] الوسائل باب 19 من أبواب الأَذان والإِقامة ح8.
[ii] الوسائل باب 19 من أبواب الأَذان والإِقامة ح7.
[iii] الوسائل باب 19 من أبواب الأَذان والإِقامة ح14.
[iv] الوسائل باب 19 من أبواب الأَذان والإِقامة ح22
[v] الوسائل باب 19 من أبواب الأَذان والإِقامة ح23.
[vi] الوسائل باب 19 من أبواب الأذان والإقامة ح1.
[vii] الوسائل باب 19 من أبواب الأَذان والإِقامة ح4.
[viii] الوسائل باب 19 من أبواب الأَذان والإِقامة ح7.
[ix] الوسائل باب 21 من أبواب الأَذان والإِقامة ح3.
[x] الوسائل باب 19 من أبواب الأَذان والإِقامة ح8.
[xi] الوسائل باب 19 من أبواب الأَذان والإِقامة ح9.
[xii] الوسائل باب 19 من أبواب الأَذان والإِقامة ح22 و23.
[xiii] الاحتجاج: 1 366 / 62.
|