ثمَّ اعلم أنَّ ناسي الحكم كالجاهل به في بطلان الصَّلاة مطلقاً، ولو مع الانحراف اليسير حتَّى مع الجهل بالحكم قصوراً، فضلاً عن التقصير، فإنَّ القصور يجعله معذوراً من حيث المؤاخذة، لا من حيث الإعادة بعد العلم والالتفات.
والسِّرّ في ذلك هو أنَّ المتبادر من الأدلَّة هو إرادة جاهل الموضوع وناسيه، وغافله، لا الجاهل بالحكم.
مضافاً إلى أنَّه لا يمكن اختصاص البطلان بالعالم بالحكم، بل الأحكام مشتركة بين العالم وبالجاهل، كما ذكرنا في أكثر من مناسبة.
وعليه، فالحكم بالصحّة فيما تقدّم إنَّما هو لِمَنْ لم يعلم بجهة الكعبة، بل ولمن لم يتمكّن من تشخيصها، لا لِمَنْ علم بها، أو تمكَّن من تشخيصها، ولكن لم يستقبلها لجهله بالحكم الشّرعي، والله العالم.
(1) قال المصنِّف R في الذكرى: «يسقط الاستقبال في الصَّلاة عند الضَّرورة، وعدم التمكُّن منه، كالمصلوب والمريض الذي لا يجد من يوجّهه إلى القِبلة مع عجزه عنها، وكالمضطرّ إلى الصَّلاة ماشياً مع عدم إمكان الاستقبال، وكما في حال شدَّة الخوف وإن قدر على الاستقبال لولا القتال، ويسقط في الميت أيضاً عند التعذُّر، وفي الذبح في الصائلة والمتردية، إذا لم يمكن فيهما الاستقبال».
وفي المدارك: «هذا الحكم ثابت بإجماع العلماء، والأخبار به مستفيضة، وسيجيء تحقيقه في محلِّه إن شاء الله ».
أقول: الأفضل تحقيق هذه المسائل في محلِّها، كما فعل الأعلام، وبحثها على نحو الاختصار يُوجِب الإخلال بها، والله العالم.
(2) يقع الكلام في أمرَيْن:
الأمر الأوَّل: في صحّة صلاة الفريضة على الراحلة اختياراً فيما إذا كان ذلك مفوِّتاً لبعض ما يُعتبر فيها، كالاستقبال والقِيام والركوع، والسجود على ما يصحّ السجود عليه، والطمأنينة بلحاظ نفس المصلي، وهذه غير الاستقرار بالنسبة إلى مكان المصلِّي، إذ الأُولى بمعنى كون المصلِّي بنفسه مستقرِّاً لا مكانه، وسيأتي الكلام عنها في مبحث أفعال الصَّلاة.
وأمَّا الطمأنينة بمعنى كون مكان المصلِّي مستقرّاً فهو ما نتكلم عنه هنا.
الأمر الثاني: نتكلم فيه عن صحّة صلاة الفريضة على الراحلة اختياراً، بحيث كان متمكناً من الاستقبال والقِيام والركوع والسجود والطمأنينة بالمعنى الأول أي بلحاظ نفس المصلّي فهل تصحّ صلاته بمجرد كونه على الراحلة سواء أكانت واقفةً أم سائرةً مع استجماع باقي الشّرائط.
أمَّا بالنسبة للأمر الأوَّل: فلا إشكال عند الأعلام في بطلانها، وفي الجواهر: «إجماعاً بقسمَيْه، بل من المسلمين فضلاً عن المؤمنين...»، وفي المدارك: «أمَّا عدم جواز صلاة الفريضة على الراحلة في حال الاختيار فقال في المعتبر: إنَّه مذهب العلماء كافةً، سواء في ذلك الحاضر والمسافر...».
أقول: يدلُّ على ذلك مضافاً إلى التسالم بين جميع الأعلام بعض الأخبار:
منها: صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله N «قال: لا يصلِّي على الدَّابة الفريضة إلاَّ مريض يستقبل به القِبلة، وتجزيه فاتحة الكتاب، ويضع بوجهه في الفريضة على ما أمكنه من شيءٍ، ويُومِئ في النافلة إيماءً»[i]f168.
ومنها: موثَّقة عبد الله بن سنان «قال: قلتُ لأبي عبد الله N أيصلِّي الرَّجل شيئاً من المفروض راكباً؟ قال: لا، إلاَّ من ضرورةٍ»[ii]f169.
واعترض صاحب الحدائق R على توصيف الرِّواية بالموثَّقة «بأنَّ في سندها أحمد بن هلال، وهو ضعيف غالٍ»، وذكر روايةً ثانيةً لعبد الله بن سنان، وقال: «هي موثَّقة، رواها الشّيخ بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب عن أحمد (بن الحسن)، عن النضر، عن ابن سنان، عن أبي عبد الله N، قال: لا تصلِّ شيئاً من المفروض راكباً، قال النضر في حديثه: إلاَّ أن يكون مريضاً»[iii]f170.
أقول: قد ذكرنا في بعض المناسبات أنَّ أحمد بن هلال العبرتائي ثقة يُعمل بروايته.
وعليه، فالرِّواية الأُولى لعبد الله بن سنان أيضاً موثَّقة.
ثمَّ إنَّ المريض المستثنى في الرِّوايات يُراد منه مطلق العاجز، فتخصيصه بالذكر إنَّما هو من باب المِثال، وإلاَّ فالمراد: غير المتمكّن.
ثمَّ إنَّ بعض الأعلام استظهر من إطلاق الفريضة في النصّ وكلام الأعلام ما يشمل المنذورة، ونحوها مما وجب بالعارض، وقال المصنِّف R في الذكرى: «لا تصحّ الفريضة على الراحلة اختياراً إجماعاً، لاختلال الاستقبال، وإن كانت منذورةً سواء نذرها راكباً أو مستقراً على الأرض لأنَّها بالنذر أعطيت حكم الواجب...».
وقال العلاّمة R في التذكرة: «لا تصلِّي المنذورة على الراحلة، لأنّها فرض عندنا، ثمَّ نقل عن أبي حنيفة أنَّه لو نذرها وهو راكب يؤدّيها على الراحلة»، ثمَّ قال: «وليس بشيء»، قال صاحب المدارك R: «ويمكن القول بالفرق، واختصاص الحكم بما وجب بالأصل، خصوصاً مع وقوع النذر على تلك الكيفية، عملاً بمقتضى الأصل، وعموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالنذر، ويؤيِّده: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى N قال: سألتُه عن رجل جَعَل ﷲ عليه أن يصلّي كذا وكذا، هل يجزيه أن يصلّي ذلك على دابّته وهو مسافر ؟ قال: نعم»[iv]f171، وفي الطريق محمّد بن أحمد العلوي، ولم يثبت توثيقه، وسيأتي تمام البحث في ذلك إن شاء الله تعالى».
أقول: أمَّا بالنسبة لصحيحة عليّ بن جعفر فقد ذكر صاحب الجواهر R «أنّها رويت بطريقين:
أحدهما: ما عرفته أي: ما في طريقه محمّد بن أحمد العلوي .
والثاني: رواه الشَّيخ R عن عليّ بن جعفر، وطريقه إليه صحيح.
وعليه، فلا إشكال في سند الرّواية؛ أضف إلى ذلك أنّ المولى الوحيد ذكر: «أنّ محمَّد بن أحمد العلوي يروي عنه الأجلة، مثل محمَّد بن علي بن محبوب، ومحمَّد بن أحمد بن يحيى، ولم يستثنِ روايته، وفيه إشعار بحسن حاله، وصحّح العلاّمة حديثه في الرّوايات التي هو في طريقها في المنتهى والمختلف...».
أقول: إنّ توثيق العلاّمة R، وإن لم يُؤخَذ به لكونه من المتأخّرين، إلاّ أنّه قد يُستفاد توثيقه من قول الشَّيخ الصَّدوق R في إكمال الدين في باب النصّ على القائم (عجل الله فرجه الشريف): «حدثنا الشّريف الديِّن الصّدوق أبو علي محمَّد بن أحمد بن زياد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عن عليّ بن قتيبة...»، فإنَّ كلمة (الصَّدوق) في كلام الشَّيخ الصَّدوق R دالَّة على التوثيق.
ومهما يكن، فإنَّ الرّواية صحيحة.
ثمَّ إنَّ بعض الأعلام استشكل في دلالة الصّحيحة بأنَّها غير صريحة الدَّلالة في المدَّعى، ولا ظاهرة إلاَّ من حيث العموم لحالتي الاختيار والضَّرورة، فيمكن تخصيصها بحالة الضَّرورة جمعاً بينها وبين الرّوايتَيْن المتقدّمتَيْن الدَّالتَيْن على المنع.
وفيه: أنَّ هذه الصَّحيحة كادت أن تكون صريحة في حال السِّعة والاختيار لا الاضطرار، ولا أقلّ من أنَّ ظهورها في الإطلاق قويّ جدّاً، فكيف يقدَّم عليه إطلاق صحيحة عبد الرّحمان، وموثَّقة ابن سنان المتقدمتين، بل التأمُّل فيهما يفضي إلى أنَّ المتبادر منهما ليس إلاَّ إرادة الفرائض اليوميَّة، فلا تشملان ما نحن فيه، أي: الصَّلاة المنذورة.
إن قلتَ: إنَّ تلك الرّوايتين إذا كانتا منصرفتين إلى الفرائض اليوميَّة، فلماذا منعتم من أداء سائر الصَّلوات الواجبة بالأصالة اختياراً على الراحلة.
قلت: إنّا منعنا ذلك لأجل عموم ما دلَّ على شرطيَّة الاستقبال، وعلى جزئيَّة الرُّكوع والسجود، ونحوهما.
وهذا بخلاف النافلة التي عَرَض لها الوجوب بنذر وشبهه، ممَّا لا يقتضي إلاَّ وجوبها على حسب مشروعيَّتها وملحوظيَّتها للجاعل، فلا يجب عليه إلاَّ فِعْلها كذلك، بحيث يصدق عليه اسم الوفاء بالنذر.
نعم، إذا كان هناك تسالم بين الأعلام على أنَّه متى عَرَض لها الوجوب أُعطيت حكم الواجبات بالأصالة، فيُؤخذ به حينئذٍ.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ هذا التسالم غير ثابت.
نعم، ادَّعى المصنِّف R في الذكرى: الإجماع على عدم صحة الفريضة على الرّاحلة اختياراً، وهو في الواقع تسالم يفوق الإجماع المصطلح عليه، إلاَّ أنَّه دليل لُبِّي يُقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو غير محلّ الفرض.
والخلاصة: أنَّ مقتضى الصناعة العلميَّة جواز الإتيان بالمنذورة على الرَّاحلة اختياراً، إلاَّ أنَّ الأحوط استحباباً المنع تحصيلاً للبراءة اليقينيَّة.
ثمَّ إنَّه لا فرق على الظَّاهر بين الفرائض بالأصالة حتَّى صلاة الجنازة اتفاقاً، إذ أظهر الأركان فيها القِيام والاستقبال والمفروض فواتهما، أو فوات أحدهما.
إن قلت: إنَّ صحيحة عبد الرّحمان، وموثَّقة ابن سنان المتقدّمتَيْن منصرفتان إلى اليوميَّة خاصّة، فلا تشملان صلاة الجنازة.
قلت: يمكن الاستدلال على المنع في صلاة الجنازة بإطلاق ما دلَّ على اشتراط القِيام والاستقبال فيها، وهذا الإطلاق السالم عن معارضة ما يقتضي جواز أدائها على الراحلة، المفوِّتة لذلك اختياراً، والله العالم.
[i] الوسائل باب 14 من أبواب القِبلة ح1.
[ii] الوسائل باب 14 من أبواب القِبلة ح4.
[iii] الوسائل باب 14 من أبواب القِبلة ح7.
[iv] الوسائل باب 14 من أبواب القِبلة ح6.
(*) الكنيسة: هي شيء يغرز في المحمل أو الرحل، ويلقى عليه ثوب يستظل به الراكب ويستتر به. مجمع البحرين، مادة كنس.
|