الدرس 177 / الإثنين: 17-أيار-2021
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ومنه: تلقِّي الرُّكبان لأربعة فراسخ فناقصاً للبيع، أوِ الشِّراء عليهم، مع جَهْلهم بسعر البلد. ولو زاد على الأربعة، أو اتِّفق من غير قصد، أو تقدَّم بعض الرَّكب إلى البلد، أوِ السَّوق، فلا تحريم.
وفي رواية منهال: «لا تلقَّ ولا تشترِ ما يتلقّى، ولا تأكل منه». وهي حجَّة التَّحريم، كقول الشَّاميين، وابن إدريس، وظاهر المبسوط. وفي النِّهاية والمقنعة: يكره؛ حملاً للنَّهي على الكراهة.
ثمَّ البيع صحيح على التَّقديرَيْن، خلافاً لابن الجنيد. ويتخيَّر الرَّكب، وفاقاً لابن إدريس؛ لما رُوِي عَنِ النَّبيِّ (صلّى الله عليه وآله): فيمَنْ تلقَّى، فصاحب السِّلعة بالخيار، ومع الغبن يقوى ثبوته. والخيار فوريٌّ. (انتهى كلامه)
(1) من جملة ما نُهِي عنه لعارض تلقِّي الرُّكبان القاصدين إلى بلد للشِّراء منهم مثلاً، قال الشَّيخ (رحمه الله) في المبسوط «ولا يجوز تلقّى الجَلَب ليُشتَرى منهم قبل دخولهم البلد...»، ومثلها عبارة ابن إدريس (رحمه الله) في السَّرائر.
وهل تلقي الرُّكبان مكروه، أو محرَّم؟
صرَّح الشَّيخ (رحمه الله) في النِّهاية بالكراهة، قال (رحمه الله): «وأمَّا التَّلقي، فهو أن يستقبل الإنسان الأمتعة والمتاجر على اختلاف أجناسها خارج البلد، فيشتريها من أربابها، وهم لا يعلمون بسعر البلد، فمَنْ فعل ذلك فقدِ ارتكب مكروهاً؛ لِمَا في ذلك مِنَ المغالطات والمغابنات...».
وحكي ذلك أيضاً عَنِ الشَّيخ المفيد (رحمه الله)، وفي الجواهر: «المشهور بين الأصحاب، بل عن بعضهم ما يظهر منه الإجماع عليه...».
وصرَّح ابن البرَّاج (رحمه الله) بالحرمة، وكذا ابن إدريس وأبو الصَّلاح الحلبي والعلاَّمة في المنتهى (رحمهم الله جميعًا).
وقال الشَّيخ (رحمه الله) في المبسوط: «لا يجوز»، وحمل العلامة (رحمه الله) في المختلف كلامه (رحمه الله) في المبسوط والخلاف على الكراهة المؤكدة، قال: «لأنَّه كثيراً ما يستعمل لفظ لا يجوز في المكروه، وهو غير بعيد...».
إذا عرفت ذلك، فنقول: أمَّا مَنْ ذهب إلى الحرمة، فقد يستدلُّ له بجملة مِنَ الرَّوايات:
منها: رواية عروة بن عبد الله عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لَاْ يتلقَّى أَحَدُكُم تِجَارةً خَاْرِجاً مِنَ المِصْرِ...»[1]f233، وهي ضعيفة بعَمْرو بن شمر، وجهالة عروة بن عبد الله.
ومنها: رواية مِنْهال القصَّاب «قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): لَا تَلَقَّ؛ فَإِنَّ رَسُولَ الله (صلّى الله عليه وآله) نَهى عَنِ التَّلَقِّي، قُلْتُ: وَمَا حَدُّ التَّلَقِّي؟ قَالَ: مَا دُونَ غَدْوَةٍ، أَوْ رَوْحَةٍ، قُلْتُ: وَكَمِ الْغَدْوَةُ وَالرَّوْحَةُ؟ قَالَ: أَرْبَعُ فَرَاسِخَ»[2]f234. قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَيْرٍ: «وَمَا فَوْقَ ذلِكَ فَلَيْسَ بِتَلَقٍّ».
وهي ضعيفة بجهالة منهال القصَّاب.
ومنها: روايته الثَّانية: عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَالَ: قَالَ: لَا تَلَقَّ، وَلَا تَشْتَرِ مَا تُلُقِّيَ، وَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ»[3]f235، وهي ضعيفة بجهالته، وأما مثنى الحناط الواقع في السند، فالظاهر أنَّه مثنى بن الوليد الحناط الممدوح.
ومنها: روايته الثَّالثة: «أنَّه سَأَلَ أَبَاْ عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ تلقِّي الغَنَمِ، فقال: لَاْ تَلَقَّ، وَلَاْ تَشْتَرِ مَاْ تَلَقَّى، وَلَاْ تَأْكُلْ مِنْ لَحْمِ مَاْ تَلَقَّى»[4]f236، وهذه الرِّواية رواها الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) في الفقيه بإسناده إليه، وإسناده إلى منهال، وإن كان صحيحاً، إلاَّ أنَّك عرفت جهالة مِنْهال، فهي ضعيفة.
ومنها: النَّبويُّ: «لا يبيعُ بعضُكُم على بَيْعَ بعضٍ»f237.
ومنها النبويّ الآخر أنه: «نهى عن تلقي السِّلعَ حتَّى يهبطَ بِهَا الأَسْواق»f238.
ومنها: النَّبويُّ الآخر: «أنَّه نَهَى عَنْ تلقِّي الجَلَبِ، قال: فإنْ تلقَّاه متلقٍّ، فصاحب السِّلعة فيها بالخِيار إذا ورَدت السُّوق»f239، وهي ضِعاف بالإرسال، بل لم ترد من طرقنا، وإنَّما روتها العامَّة، وذكرها الأصحاب نقلاً منهم.
والإنصاف: أنَّ هذه الرِّوايات لو تمَّت سنداً لكانت ظاهرة في الحرمة، وحَمْلها على الكراهة خلاف الظَّاهر، وذهاب مشهور المتأخِّرين إلى الكراهة لا يكون قرينةً على حَمْلها على الكراهة، كما أنَّ موافقتها للعامَّة لا تكون قرينةً على ذلك أيضاً.
والخلاصة: أنَّ السَّبب الوحيد لعدم الذَّهاب إلى الحرمة هو ضعفها سنداً، وإن كانت مستفيضةً.
نعم، مَنْ يطمئنُّ بصدورها تصبح حجَّةً عليه، ولكنَّ الكلام في حصول هذا الاطمئنان.
أمَّا القول: بالكراهة، فالظَّاهر أنَّ هناك تسالماً على المرجوحيَّة بين المسلمين، كما لا يخفى؛ لأنَّ كلَّ مَنْ ذهب إلى الحرمة، ومَنْ ذهب إلى الكراهة يعترف بالمرجوحيَّة.
نعم الكراهة بالمعنى المصطلح عليه غير ثابتة؛ لضعف الرِّوايات، والله العالم.
ثمَّ إنَّه بقي الكلام في عدَّة أمور:
الأوَّل: المعروف بين الأصحاب قديماً وحديثاً أنَّ حدَّ التَّلقِّي المنهي عنه أربعة فراسخ بخروج الحدِّ عن حكم المحدود، فحينئذٍ لا تلقِّي مِنَ الأربعة فصاعداً على تقديرَي الحرمة والكراهة، بل يكون سفر تجارة.
قال العلاَّمة (رحمه الله) في المنتهى: «حدَّ علماؤنا التَّلقي بأربعة فراسخ، فكرهوا التَّلقي إلى ذلك الحدِّ، فإن زاد على ذلك كان تجارةً وجَلَبا، ولم يكن تلقِّياً، وهو ظاهر، لأنه بمُضيِّه ورجوعه يكون مسافراً، ويجب عليه التَّقصير، فيكون سفراً حقيقيّاً إلى ان قال: ولا نعرف بين علمائنا خلافاً فيه».
وتشير إلى ما ذكرناه: رواية مِنْهال الأولى، قال: «وَمَا حَدُّ التَّلَقِّي؟ قَالَ: مَا دُونَ غَدْوَةٍ، أَوْ رَوْحَةٍ، قُلْتُ: وَكَمِ الْغَدْوَةُ وَالرَّوْحَةُ؟ قَالَ: أَرْبَعة فَرَاسِخَ»، وهي ظاهرة في أنَّ التَّلقي المنهيَّ عنه هو ما يكون فيما دون مسافة الأربعة، بمعنى أنَّه إذا بلغ الأربعة خرج عن محلِّ النَّهي، ويحمل كلام ابن أبي عمير: «وما فوق ذلك فليس بتلقٍّ»، أي ما زاد على الدُّون.
وتشير إلى ذلك أيضاً: مرسلة الفقيه «قال: رُوِي أنَّ حَدَّ التَّلَقِّي رَوْحةٌ، فإذَاْ صَارَ إِلَى أَرْبَع فراسخ فَهُوَ جَلْبٌ»f240، وهي ضعيفة بالإرسال.
ومعنى هذه الرِّواية: أنَّه متى قطع الأربعة، ووصل على رأسها، فهو جَلْب وليس بتلقٍّ؛ لأنَّه حينئذٍ يصير سفراً برجوعه، وهذه الرِّوايات مؤيِّدة، وليست دالَّةً؛ لأنها ضعيفة، كما عرفت.
والعمدة: هو التَّسالم بين الأعلام.
ثمَّ اعلم أنَّ الغُدْوَة: من أوَّل النَّهار إلى الزّوال، والرَّوْحَة مِنَ الزَّوال إلى الغروب.
وبياض اليوم: عبارة عن ثمانية فراسخ، فيكون كلُّ نصف أربعة فراسخ، والله العالم.
الوسائل باب 36 من أبواب آداب التِّجارة ح5.
الوسائل باب 36 من أبواب آداب التِّجارة ح1.
الوسائل باب 36 من أبواب آداب التِّجارة ح2.
الوسائل باب 36 من أبواب آداب التِّجارة ح3.
سنن الكبرى للبيهقي: ج5، ص345.
سنن الكبرى للبيهقي: ج5، ص347.
سنن الكبرى للبيهقي: ج5، ص348.
الوسائل باب 36 من أبواب آداب التِّجارة ح6.
|