وأمَّا صحيحة عمر بن يزيد في حديث «قَاْل: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام): نُعطِي الفِطْرة دقيقاً مكان الحِنطة؟ قَاْل: لا بأس، يكون أَجْر طحنِه بقدر ما بين الحِنطة والدَّقيق...»([1])، فيظهر من المحقِّق (رحمه الله) في المعتبر أنَّه استدلّ بها على إجزاء الدَّقيق مكان الحِنطة بالقيمة، لا على أنَّ الدَّقيق أصل.
وكذا العلاَّمة (رحمه الله) في المنتهى، حيث نقل هذه الرِّواية دليلاً لابن إدريس (رحمه الله) في جواز إخراج الدَّقيق أصلاً.
ثمَّ أجاب عنها: بأنَّ فيها تنبيهاً على اعتبار القيمة؛ لأنَّه (عليه السلام) ذكر المساواة بين أُجْرة الطحن والتَّفاوت.
وذكر السّيِّد محسن الحكيم (رحمه الله) في المستمسك: «أنَّ هذه الرِّواية ظاهرة في كون الدَّقيق قيمة لا أصلاً، وإلاَّ لم يجزِ دفع ما ينقص وزناً عن الصَّاع إجماعاً».
أقول: إنَّ الأظهر في معنى هذه الصَّحيحة هو ما ذكره صاحب الحدائق (رحمه الله)، حيث قال: «الظَّاهر أنَّ معنى الرِّواية المذكورة هو أنَّ السَّائل سأل عن إعطاء الدَّقيق الذي يحصل من صاع الحِنطة بعد طحنه هل يُجزئ عن صاع الحنطة أم لا؟ فأجاب (عليه السلام) أنه يجزئ؛ لأنَّه تكون أُجرة الطَّحن في مقابلة التَّفاوت الذي بين الحِنطة والدَّقيق، ولا دلالة في الرِّواية على كونه قيمة عن الحِنطة إن كان، إَّلا من حيث قوله: «مكان الحنطة» أي عوضاً عنها، وهو غير ظاهر في ذلك؛ إذ يجوز أن يكون السَّائل توهَّم انحصار جواز الإعطاء في الحِنطة دون دقيقها، فأجابه (عليه السلام) بأنَّه لا ينحصر فيها، بل يجزئ إعطاء الدَّقيق، وكونه أقلّ من الصَّاع بعد الطَّحن يكون في مقابلة أجرة الطَّحن التي دفعها المالك...».
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: الثَّاني: لا يُجزئ المعيب، ولا غير المصفَّى، إلاَّ بالقيمة(1)
(1) ذكر جماعة من الأعلام منهم المصنِّف (رحمه الله) أنَّه لا يُجزئ المعيب والممتزج بالتُّراب ونحوه ممَّا لا يتسامح به إلاَّ على جهة القيمة.
نعم، لو كان الممتزج بعد التَّصفية بمقدار صاع من الحِنطة أو الشَّعير لأجزأ، قال صاحب الجواهر (رحمه الله): «الظَّاهر انسباق الصَّحيح منها، فلا يُجزي المعيب، كما نص عليه في الدُّروس، بل ولا الممزوج بما لا يتسامح فيه إلاَّ على جهة القيمة، لفقد الاسم المتوقِّف عليه الامتثال أو المنساق منه عند الإطلاق، خصوصاً مع ملاحظة عدم إجزاء ذات العَوَار والمريضة في الزَّكاة الماليّة، وإن كان هو من القوت الغالب...».
أقول: أمَّا بالنِّسبة للمعيب: فإنَّ كان العيب يمنع من الانتفاع بالحِنطة والشَّعير والتَّمر ونحوها، بحيث يصبح وجودها كعدمها، فحتماً لا يُجزئ المعيب. وأمَّا إذا لم يصل إلى هذه الدَّرجة، بل يمكن الانتفاع به عند النَّاس، غاية ما هنالك أنَّه ليس كالصَّحيح، ففي هذه الحالة لا دليل على عدم الإجزاء.
وأمَّا الانسباق الَّذي ذكره صاحب الجواهر (رحمه الله): فغير ثابت.
وأمَّا بالنِّسبة للممزوج غير المصفَّى: فإن كان المزج يمنع من صِدْق الاسم، بحيث لا يُقال له: حِنطة أو شعير، ونحو ذلك، فلا يُجزئ حينئذٍ إلاَّ بالقيمة، إلاَّ إذا كان الخالص منه بعد التَّصفية بمقدار صاع من الحِنطة أو الشَّعير مثلاً، أو كان الممتزج مع الحنطة كالتُّراب مثلاً ممَّا يتسامح به، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: الثَّالث: لو أخرج نصف صاع أعلى قيمةً يساوي صاعاً أدنى، ففي إجزائه تردُّد، وقطع بالإجزاء في المختلف(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّه لو أخرج نصف صاع أعلى قيمةً يُساوي صاعاً أدون قيمةً منها أو من غيرها فلا يُجزئ، وفاقاً للمصنف (رحمه الله) في البيان، ولصاحب المدارك، وصاحب الجواهر (رحمهما الله)؛ لظهور كون قيمة الأصول من غيرها، فلا تكون الأصول قيمة.
وبعبارة أخرى: إنَّ القيمة لا تشمل الأصول المذكورة، بل هي مختصَّة بغيرها، فيمكن أن تكون الثِّياب قيمة عن الحِنطة والشَّعير والتَّمر والزَّبيب ونحوها من الأصول مثلاً، وكذا الكتب يمكن أن تكون قيمةً عن تلك الأصول، وأمَّا نفس الأصول فلا تكون قيمةً، فلا يدفع التَّمر قيمة عن الحِنطة أو الشَّعير ونحوه، بل يدفع التَّمر من باب أنَّه أصل، وكذا باقي الأصناف.
وأمَّا ما في صحيحة عمر بن يزيد المتقدِّمة من دفع الدَّقيق مكان الحِنطة فهو من باب أنَّ الدَّقيق أصل لا من باب كون الدَّقيق قيمةً.
([1]) الوسائل باب 9 من أبواب زكاة الفطرة ح5.
|