قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وقال سلاَّر: أعلاها قيمة(2)
(2) المعروف بين الأعلام أنَّ مراتب الاستحباب ثلاث: التَّمر أوَّلاً، ثمَّ الزَّبيب ثانياً، ثمَّ القوت الغالب ثالثاً.
وأمَّا ما ذكره سلاَّر (رحمه الله) كمرتبة رابعة، فلا دليل عليه.
نعم، قد يستدلّ له بموثَّقة إسحاق بن عمَّار الصَّيرفي «قَاْل: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعلت فداك! ما تقول في الفِطْرة، يجوز أن أُؤدِّيها فضَّةً بقيمة هذه الأشياء التي سمَّيتها؟ قَاْل: نعم، إنَّ ذلك أنفع له، يشتري ما يريد»([1])، ولكنَّها خارجة عن محلّ النِّزاع؛ لأنَّ الكلام في الاستحباب الخصوصيّ المنصوص، دون ما يحصل بالمرجّحات الخارجيّة، فإنَّه لا ضابط لها، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وتجزئ القيمة بسعر الوقت. ورُوي: درهم في الغلاء والرّخص. ورُوي: ثلثاه في الرّخص(1)
(1) يقع الكلام في ثلاثة أمور:
الأوَّل: هل يجتزئ بقيمة أحد المذكورات أم لا؟
الثَّاني: هل القيمة مختصّةٌ بالدَّراهم والدَّنانير، ونحوهما من النُّقود، أم تشمل غيرها، مثل اللِّباس والفراش والكتب، وغيرها من الأجناس؟
الثَّالث: قد عرفت أنَّ الفِطْرة هي صاع من المذكورات عن كلِّ رأسٍ، فهل قيمة الصَّاع تُقدَّر بدرهم، أو ثُلُثي الدِّرهم ، أو لا تقدير شرعيّ لها، بل المدار على القيمة السُّوقيّة، وهي قيمة وقت الإخراج، لا وقت الوجوب، وهي أيضًا قيمة بلد الإخراج، لا وطنه، ولا بلد آخر؟
إذا عرفت ذلك، فنقول:
أمَّا الأمر الأوَّل: فالمعروف بينهم هو الإجتزاء بقيمة أحد المذكورات، سواء وجدت الأنواع المنصوصة أم لم توجد، وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسمَيْه عليه، بل المحكيّ منه فوق الاستفاضة كالنُّصوص...»، وفي المدارك: «هذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب، ونصّ المصنِّف في المعتبر وغيره على أنَّه لا فرق في ذلك بين أن تكون الأنواع المنصوصة موجودة أو معدومة...».
أقول: تسالم الأعلام قديماً وحديثاً، وفي جميع الأعصار والأمصار على الإجتزاء بالقيمة، بحيث خرجت المسألة عن الإجماع المصطلح عليه.
ومع ذلك قدِ استفاضت الرِّوايات في جواز إخراج القيمة:
منها: صحيحة محمَّد بن إسماعيل بن بزيع «قَاْل: بعثت إلى أبي الحسن الرِّضا (عليه السلام) بدراهم لي ولغيري، وكتبت إليه أُخبره أنَّها من فِطْرة العِيال، فكتب بخطِّه: قبضت»([2]).
ومنها: صحيحة أيوب بن نوح «قَاْل: كتبتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام): إنَّ قوماً يسألوني عن الفِطْرة، ويَسْألُوني أن يَحْمِلُوا قيمتَها إليك، وقد بعثتُ إليك هذا الرَّجل عام أوَّل، وسألني أنْ أسألك، فأُنسِيت ذلك، وقد بعثتُ إليك العام عن كلِّ رأسٍ من عياله بدرهم على قيمة تسعة أرطالٍ بدرهم، فرأيك جعلني الله فداك! في ذلك؟ فكتب (عليه السلام): الفِطْرة قد كثر السُّؤال عنها، وأنا أكره كلَّ ما أدَّى إلى الشُّهرة، فاقطعوا ذِكْر ذلك، واقبض ممَّنْ دفع لها، وأمسك عمَّنْ لم يدفع»([3]).
ومنها: موثَّقة إسحاق بن عمَّار المتقدِّمة «قَاْل: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك! ما تقول في الفِطْرة، يجوز أن أُؤدِّيها فضَّةً بقيمة هذه الأشياء التي سمَّيتها؟ قَاْل: نعم، إنَّ ذلك أنفع له، يشتري ما يريد»([4]).
ومنها: موثَّقته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَاْل: لا بأس بالقِيمة في الفِطْرة»([5]).
ومنها: موثَّقته الثَّالثة «قَاْل: سألتُ أبا الحسن (عليه السلام) عن الفِطْرة، فقال: الجيران أحقُّ بها، ولا بأس أن يُعطى قيمة ذلك فضَّة»([6]).
ومنها: موثَّقته الرَّابعة في حديث «قَاْل: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفِطْرة، نجمعها ونُعطِي قيمتها ورقاً، ونعطيها رجلاً واحداً مسلماً؟ قال: لا بأس به»([7]).
ومنها: موثَّقته الخامسة عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله أي مثل الموثَّقة الثَّالثة «وقَاْل: لا بأس أن تُعطِيه قيمتها درهماً»([8])، وهي موثقة، لأنَّ أحمد بن هلال الموجود في السَّند، وإن كان فاسد العقيدة، إلاَّ أنَّه ثقة، حيث قال النَّجاشيّ في ترجمته: «إنَّه صالح الرِّواية، غايته أنَّ حديثه يُعرف ويُنكر...»، وقوله: «صالح الرِّواية» أي أنَّه ثقة في نفسه.
وقوله: «إنَّ حديثه يُعرف ويُنكر» لا ينافي الوثاقة؛ لأنَّ معنى ذلك أنَّ بعض أحاديثه منكرة؛ لخلل في المضمون، أو لروايته عمَّنْ لا يُعتمد عليه.
الأمر الثَّاني: ذهب جماعة كثيرة من الأعلام إلى جواز إخراج القيمة من الدَّراهم والدَّنانير وغيرهما من النُّقود المتداولة في هذه الأعصار، بل من غير النُّقود أيضاً من الأجناس، كاللِّباس والفراش والكتب، وغيرها.
وقدِ استدلّ لذلك بإطلاق موثَّقة إسحاق بن عمَّار المتقدِّمة: «لا بأس بالقيمة في الفِطْرة».
ووجه الاستدلال بها: هو أنَّ القيمة مطلقة، فتشمل كلَّ ما ذكرناه، قال صاحب المدارك (رحمه الله): «وهو مشكلٌ؛ لقصور الرِّواية المطلقة من حيث السَّند عن إثبات مثل ذلك، واختصاص الأخبار السَّليمة بإخراج القيمة من الدَّراهم».
وفيه: أنَّ الرِّواية الموثَّقة حُجَّة كما ذكرنا في أكثر من مناسبة.
وبالجملة، فإنَّ ما بنى عليه صاحب المدارك (رحمه الله) من الأخذ بخصوص الحسن والصَّحيح، ووافقه عليه صاحب المعالم (رحمه الله) أيضاً، ليس تامّاً.
([1]) الوسائل باب 9 من أبواب زكاة الفطرة ح6.
([2]) الوسائل باب 9 من أبواب زكاة الفطرة ح1.
([3]) الوسائل باب 9 من أبواب زكاة الفطرة ح3.
([4]) الوسائل باب 9 من أبواب زكاة الفطرة ح6.
([5]) الوسائل باب 9 من أبواب زكاة الفطرة ح9.
([6]) الوسائل باب 9 من أبواب زكاة الفطرة ح10.
([7]) الوسائل باب 9 من أبواب زكاة الفطرة ح4.
([8]) الوسائل باب 9 من أبواب زكاة الفطرة ح11.
|