أقول: أمَّا مَنْ ذهب إلى السُّقوط، وهو المشهور بين الأعلام، فقد يستدلّ لهم بأمرَيْن:
الأوَّل: انتفاء الموقّت بانتفاء وقته، كما هو المعروف بين الأعلام، وقد حرَّرنا ذلك في علم الأصول، ومن المعلوم أيضاً أنَّ القضاء يحتاج إلى أمر جديد، وهو منتفٍ.
الثَّاني: ما دلَّت عليه جملة من الرِّوايات على أنَّها بعد الوقت صدقة، أي صدقة مستحبّة:
منها: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث «وإعطاء الفِطْرة قبل الصَّلاة أفضل، وبعد الصَّلاة صدقةٌ»([1])، أي: صدقة مستحبَّة.
وهذا يدلّ على سقوط الزَّكاة بعد الوقت إذا لم يكن عزلها قبله.
نعم، الأحوط أن يدفع بعد الصَّلاة بعنوان الأعمّ من الزَّكاة والصَّدقة المستحبَّة.
وأمَّا مَنْ ذهب إلى عدم السُّقوط، فقد يستدلّ له بثلاثة أدلَّة:
الأوَّل: صحيحة زرارة المتقدِّمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «في رجلٍ أخرج فطرته، فعزلها حتَّى يجد لها أهلاً، فقال: إذا أخرجها من ضمانه فقد برئ، وإلاَّ فهو ضامنٌ لها حتَّى يُؤدِّيها إلى أربابها»([2])، والشَّاهد هو قوله (عليه السلام): «وإلاَّ فهو ضامنٌ لها حتَّى يُؤدِّيها».
وفيه: أنَّها إنَّما تدلّ على وجوب الإخراج مع العزل، وهو خارج عن محلِّ الكلام.
الثَّاني: استصحاب وجوب الموقَّت بعد خروج الوقت، ولا ينافيه التَّوقيت. ولا مانع من جريانه.
ودعوى تعدُّد الموضوع، ممنوعةٌ؛ لاتِّحاد الموضوع عرفاً.
وفيه: أنَّ هذا الحكم الشَّخصيّ قد سقط بانتفاء الوقت؛ لأنَّ المؤقَّت ينتفي بانتفاء وقته.
وعليه، فلا يوجد شكّ في بقاء هذا الحكم حتَّى يستصحب.
نعم، نحتمل بعد ارتفاع هذا الحكم الشَّخصيّ حدوث حكم جديد حين ارتفاع الحكم السَّابق، فلو جرى الاستصحاب حينئذٍ لكان من قبيل استصحاب القسم الثَّالث من استصحاب الكُلِّيّ؛ باعتبار أنَّه يحتمل بقاء كُلِّيّ الوجوب في ضمن فرد آخر حدث مقارناً لارتفاع الفرد الأوَّل الثَّابت في الوقت، وقد ذكرنا في علم الأصول أنَّ الاستصحاب لا يجري في هذا القسم.
الثَّالث: أنَّ خروج الوقت لا يسقط الحقّ، كالدَّين وزكاة المال والخمس.
وفيه أوَّلاً: أنَّ وجوب زكاة الفِطْرة هو حكم تكليفيّ محض، وليس فيه حكم وضعيّ.
وعليه، فلم تشتغل الذِّمّة بالمال حتَّى يُقال: إذا سقط التَّكليف بقي الحكم الوضعيّ.
وثانياً: لو سلَّمنا بذلك، إلاَّ أنَّه قياس مع الفارق؛ لأنَّ الدَّين وزكاة المال والخمس ليست من قبيل الواجب الموقَّت، بخلاف الفِطْرة.
والخلاصة إلى هنا: أنَّه لا يجب الإتيان بها بعد خروج الوقت لا قضاء ولا أداءً، والله العالم.
الأمر الخامس: هل يجوز نقلها من بلده إلى بلد آخر مع وجود المستحقّ؟
أقول: أمَّا مع عدم وجوده فلا إشكال في جواز النَّقل، وإنَّما الكلام في جوازه مع وجود المستحقّ. وقد ذكر الأعلام أنَّ حكم هذه المسألة هو الحكم في زكاة المال، وقد عرفت أنَّ فيها أربعة أقوال، وقد ذهب كثير منهم إلى جواز النَّقل مطلقاً، وقدِ اخترنا هناك جواز النَّقل مع الضَّمان لو تلفت.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّه يوجد هنا روايتان تدلاَّن على عدم جواز النَّقل مع وجود المستحقّ:
الأُولى: موثَّقة الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَاْل: كان جدِّي (ص) يُعطي فطرته الضَّعفة (الضعفاء)، ومَنْ لا يجد، ومَنْ لا يتولّى، قَاْل: وقال أبو عبد الله (عليه السلام): هي لأهلها إلاَّ أن لا تجدهم، فإن لم تجدهم فلمَنْ لا ينصب، ولا تنقل من أرض إلى أرض، وقَاْل: الإِمام يضعها حيث يشاء، ويصنع فيها ما رأى»([3])، وهي واضحة الدَّلالة، أُنظر إلى قوله (عليه السلام): «ولا تنقل من أرض إلى أرض».
الثَّانية: مكاتبة عليّ بن بلال «قَاْل: كتبتُ إليه: هل يجوز أن يكون الرَّجل في بلدة ورجل آخر من إخوانه في بلدة أُخرى، يحتاج أن يوجَّه له فطرة أم لا؟ فكتب: تقسَّم الفِطْرة على مَنْ حضر، ولا يوجَّه ذلك إلى بلدة اُخرى، وإن لم يجد موافقاً»([4])، وهي، وإن كانت مضمرةً، إلا أنَّ المعروف عن عليِّ بن بلال أنَّه يروي غالباً عن المعصوم (عليه السلام)، فلذا تطمئن النَّفس بأنَّ المكتوب إليه هو المعصوم (عليه السلام)، وقد صاحب عليُّ بن بلال ثلاثة من الأئمَّة (عليهم السلام) الإمام الجواد، والإمام الهادي، والإمام العسكريّ (عليهم السلام)، فلذا تكون المكاتبة صحيحة.
وظاهر هاتَيْن الرِّوايتَيْن المنع من النَّقل مع وجود المستحقّ، ومقتضى الصِّناعة العلميّة، وإن كان هو عدم جواز النَّقل، إلاَّ أنَّ الأفضل عدم الإفتاء بذلك والذَّهاب إلى الاحتياط.
وعليه، فالأحوط وجوباً عدم النَّقل مع وجود المستحقّ، إلاَّ إذا أراد دفعها إلى الفقيه، فإنَّه يجوز حينئذٍ نقلها إليه، بل هو الأفضل، والله العالم.
([1]) الوسائل باب 12 من أبواب زكاة الفطرة ح1.
([2]) الوسائل باب 13 من أبواب زكاة الفطرة ح2.
([3]) الوسائل باب 15 من أبواب زكاة الفطرة ح3.
([4]) الوسائل باب 15 من أبواب زكاة الفطرة ح4.
|