قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ويُقبل دعوى الفقر والعجز عن التّكسُّب إلاَّ مع علم الكذب(1)
(1) المعروف بين الأعلام جواز إعطاء الفقير بمجرَّد دعوى الفقر من دون حاجة إلى يمين أو بينة.
وقدِ استدلّ لذلك بجملة من الأمور، كلّها لا تُسمن ولا تُغني من جوع كما سيتضح لك :
منها: أصالة الصِّحّة في دعوى المسلم أو أصالة العدالة فيه، أو لأنَّ في مطالبته بالبيّنة أو اليمين إذلالاً له، أو لأنَّ دعواه الفقر من الدَّعوى بلا معارض المقبولة، أو لتعذُّر إقامة البيّنة عليه، فيشمله ما تضمن قبول الدَّعوى إذا كانت كذلك، ونحو ذلك.
والإنصاف: أنَّه قبل بيان الحقّ في المقام لا بدّ أن نُحرر محلّ النِّزاع، فنقول: إنَّ مدَّعي الفقر إن عرف صدقه أو كذبه عُومل به.
وإن جهل الأمران، فالمعروف بينهم أنَّه يُعطى من غير يمين، سواء كان قوياً أو ضعيفاً، وفي الجواهر: «بلا خلاف معتدٍّ به أجده، بل في المدارك: هو المعروف من مذهب الأصحاب، بل ظاهر المعتبر والعلاَّمة (رحمه الله) في كتبه الثَّلاثة: أنَّه موضع وفاق...».
أقول: قدِ استدلّ لذلك بعدَّة أدلَّةٍ ذكرناها سابقاً.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّه إن جُهل الأمران، فمع سبق فقره يُعطى بلا إشكال، لا لما ذكروه من الأدلَّة، بل لاستصحاب الفقر، وهو حُجَّة شرعيَّة، ولا يحتاج معه لا إلى يمين ولا إلى بيّنة، بل يُعطى، وإن لم يدَّعِ الفقر.
وأمَّا إن كانت الحالة السَّابقة هي الغنى، فقد عرفت أنَّهم استدلّوا بعدَّة أدلَّةٍ لسماع دعواه مطلقاً، سواء أكانت الحالة السابقة هي الغنى أم لا، نذكر أهمّها:
منها: صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: قلتُ: عشرة كانوا جلوساً، ووسطهم كيس، فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضاً: ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم: لا، وقال واحد منهم: هو لي، فلمَنْ هو؟ قال: للَّذي ادَّعاه»([1])، وهذه الرِّواية، وإن كانت ضعيفةً بطريق الكلينيّ (رحمه الله) بالإرسال، إلاَّ أنَّها صحيحة في التهذيب.
قال صاحب الحدائق (رحمه الله): «ويُستفاد من هذا الخبر أنَّ كلَّ مَنِ ادَّعى ما لا يد عليه قُضي له به، وبذلك صرَّح الأصحاب من غير خلاف ينقل، قال شيخنا الشَّهيد الثَّاني في المسالك بعد نقل الرِّواية المذكورة دليلاً للحكم المذكور: ولأنَّه مع عدم المنازع لا وجه لمنع المدَّعي منه ولا لطلب البيّنة ولا لإحلافه؛ إذ لا خصم له حتّى يترتَّب عليه ذلك، وفيه إشارة إلى ما قدَّمناه من أنَّ البيَّنة واليمين إنَّما هي في مقام الخصومة، ومع عدم خصم يُقابل بإنكار تلك الدَّعوى فليس المقام مقام البيّنة ولا اليمين» .
وفيه: أنَّ هذا يتمّ في الكيس ونحوه ممَّا لا مدخليَّة لمسلم آخر فيه، بخلاف ما نحن فيه، حيث كلّف المسلم بإيصال الزَّكاة للفقير، وهو متوقّف على العلم بفقره، أو أيّ حُجَّة شرعيَّة، وليست دعوى الفقر منها، بل المقام أشبه بدعوى العدالة في جواز الصلاة خلفه، أو دعوى الاجتهاد في جواز الأخذ عنه، فلا بدّ من إثبات ذلك بحُجّة شرعيّة، بل الحُجَّة الشَّرعيّة على العدم موجودة، وهي استصحاب غناه.
ومنها: ما دلّ على أنَّ المطلقة ثلاثاً إذا ادَّعت أنَّها زوجت وحللت نفسها صدقت، كما في صحيحة حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) «في رجلٍ طلَّق امرأته ثلاثاً، فبانت منه، فأراد مراجعتها، فقال لها: إنِّي أُريد مراجعتك، فتزوَّجي زوجاً غيري، فقالت له: قد تزوَّجت زوجاً غيرك، وحلَّلت لك نفسي، أيصدَّق قولها ويُراجعها؟ وكيف يصنع؟ قال: إذا كانت المرأة ثقةً صُدِّقت في قولها»([2]).
قال صاحب الحدائق (رحمه الله): «قال بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم): المراد بكونها ثقةً، أي موثوق بإخبارها، غير متَّهمة، لا الثِّقة بالمعنى المصطلح، وهو كذلك...»، وهو كذلك.
ومنها: ما دلَّ على أنَّ المرأة مصدَّقة في نفي الزَّوج كما في معتبرة ميسر «قال: قلتُ لأبي عبدالله (عليه السلام): ألقى المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد، فأقول لها: لك زوج؟ فتقول: لا، فأتزوَّجها؟ قال: نعم، هي المصدَّقة على نفسها»([3]).
وفيه: أنَّ هذه الرِّوايات يعمل بها في موردها ولا يتعدّى منها إلى غيرها، لحرمة القياس.
ومنها: الرِّوايات المستفيضة الواردة في من أهدى جاريته للكعبة، والتي منها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) «قال: سألته عن رجل جعل ثمن جاريته هدياً للكعبة؟ فقال: إنَّ أبي أتاه رجل قد جعل جاريته هدياً للكعبة، فقال له أبي: مُرّ منادياً يُنادي على الحجر: ألا من قصرت به نفقته أو نفد طعامه فليأتِ فلان بن فلان، وأمره أن يُعطي الأوَّل فالأوَّل حتّى ينفد ثمن الجارية»([4]).
ومنها: ما ورد في إعطاء السَّائل، كما في رواية عبد الرَّحمان العرزميّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (عليهما السلام)، وَهُمَا جَالِسَانِ عَلَى الصَّفَا، فَسَأَلَهُمَا فَقَالا: إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ إِلاَّ فِي دَيْنٍ مُوجِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ، فَفِيكَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَعْطَيَاهُ...»([5])، إلى هنا انتهى ما في الوسائل.
وتكملة الحديث: «وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ سَأَلَ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَعْطَيَاهُ، وَلَمْ يَسْأَلَاهُ عَنْ شَيْءٍ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمَا، فَقَالَ لَهُمَا: مَا لَكُمَا لَمْ تَسْأَلَانِي عَمَّا سَأَلَنِي عَنْهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (عليهما السلام)، وَأَخْبَرَهُمَا بِمَا قَالا، فَقَالا: إِنَّهُمَا غُذِّيَا بِالْعِلْمِ غِذَاءً»([6])، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال.
قال صاحب الحدائق (رحمه الله): «ومنه قبول قول مَنْ عليه زكاة، أو خُمس في إخراجه، ومنه ما لوِ ادَّعى صاحب النِّصاب إبداله في أثناء الحول فراراً من الزَّكاة، وما لو خرص عليه وادَّعى النُّقصان عن بلوغ النِّصاب، ولوِ ادَّعى الدَّين ولم يكذّبه غريمه أو الكتابة ولم يكذّبه سيدّه، أو ادَّعى ذهاب ماله بعد أن كان غنياً، وقد أنهى شيخنا الشَّهيد الثَّاني جملةً منها تزيد على عشرين موضعاً. ثمّ قال: وضبطها بعضهم بأنَّ كلَّ ما كان بين العبد وبين الله ولا يعلم إلاَّ منه ولا ضرر فيه على الغير أو ما تعلَّق به الحدّ أو التَّعزير».
([1]) الوسائل باب 17 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ح1.
([2]) الوسائل باب 11 من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ح1.
([3]) الوسائل باب 10 من أبواب المتعة ح1.
([4]) الوسائل باب 60 من أبواب كتاب الوصايا ح1.
([5]) الوسائل باب 1 من أبواب المستحقين للزكاة ح6.
([6]) الكافي كتاب الزكاة باب النوادر من أبواب الصدقة ح7 ج4 ص47.
|