الدَّليل الثَّالث: رواية جعفر بن إبراهيم الهاشميّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: قلتُ له: أتحلُّ الصَّدقة لبني هاشم؟ فقال: إنَّما تلك الصَّدقة الواجبة على النَّاس لا تحلُّ لنا، فأمَّا غير ذلك فليس به بأس، ولو كان كذلك ما استطاعوا أن يخرجوا إلى مكة، هذه المياه عامّتها صدقة»([1]).
وفيه أوَّلاً: أنَّها ضعيفة؛ لأنَّ محمَّد بن إسماعيل الَّذي يروي عنه الكلينيّ هو البندقي النَّيشابوريّ المجهول، وليس ابن بزيع الثِّقة، كما لا يخفى.
وثانياً: مع قطع النَّظر عن ضعف السَّند، فإنَّ الظَّاهر من الصَّدقة الواجبة على النَّاس هي الزَّكاة؛ وذلك لكثرتها وكثرة الابتلاء بها، لاسيَّما زكاة الفطرة تكون واجبةً على جميع النَّاس.
وعليه، فإطلاق وجوب الصَّدقة في الكتاب المجيد والسُّنة النّبويّة الشَّريفة منزَّل على ذلك، وهذا بخلاف غيرها من الصَّدقات الواجبة التي تجب على نوع خاص من النَّاس مثل الكفارات الواجبة عند حدوث أسبابها، فلا يحسن التَّعبير عنها في الكتاب المجيد والسُّنة النَّبويّة الشَّريفة بالصَّدقة الواجبة.
وبالجملة، فإنَّ رواية جعفر بن إبراهيم الهاشميّ ظاهرة في خصوص الزَّكاة.
ثمَّ لو سلّمنا بصحة سندها، وإطلاقها، فهي مقيّدة بموثَّقة إسماعيل بن الفضل الهاشميّ المتقدِّمة، كما لا يخفى.
والخلاصة: أنَّ القول الثَّاني وهو الاختصاص بالزَّكاة هو المتعيّن.
ثمَّ إنَّه بقي الكلام: فيما ذكره صاحب الجواهر (رحمه الله)، وقد تقدَّمت عبارته، حيث قال: «بل لولا ما يظهر من الإجماع على اعتبار اتِّحاد مصرف زكاة المال وزكاة الفطرة بالنِّسبة إلى ذلك لأمكن القول بالجواز في زكاة الفطرة، اقتصاراً على المنساق من هذه النُّصوص من زكاة المال، خصوصاً ما ذكر فيه صفة التَّطهير للمال الشَّاهد على كون المراد من غيره ذلك أيضاً».
أقول: إنَّ المحرَّم من صدقات غير الهاشميّ عليه هو زكاة المال الواجبة وزكاة الفطرة بالاتِّفاق، إلاَّ أنَّ الدليل عليه لا ينحصر بالإجماع، الَّذي هو في الواقع تسالم، بل ما دل على المنع من الزكَّاة في الرِّوايات الكثيرة يشمل زكاة الفطرة، بل في بعض الروايات أنَّ أوَّل زمان تشريع الزَّكاة لم تكن الزَّكاة حينئذٍ إلاَّ زكاة الفطرة، كما في صحيحة هشام بن الحكم عن الصَّادق (عليه السلام) «أنَّه قال: التَّمر في الفطرة أفضل من غيره؛ لأنَّه أسرع منفعة، وذلك أنَّه إذا وقع في يد صاحبه أكل منه، قال: ونزلت الزَّكاة وليس للنَّاس أموال وإنَّما كانت الفطرة»([2]).
ومن هنا يُعرف أنَّ زكاة الفطرة داخلة في قوله تعالى: « إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ ﴾ ]التوبة: 60[ الآية ، بل هي القدر المتيقَّن منها؛ باعتبار أنَّ تشريعها كان قبل تشريع زكاة المال، كما في صحيحة هشام بن الحكم المتقدِّمة.
وفي بعض الرِّوايات تفسير الزكاة في قوله تعالى: «وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ﴾ ]البقرة: 43[، بزكاة الفطرة، ولكنَّها ضعيفة، مثل رواية إسحاق بن عمَّار المرويّة في تفسير العياشيّ «قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عز وجل): «وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ »؟ قال: هي الفطرة التي افترض الله على المؤمنين»([3])، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال.
ومثل رواية إسحاق بن المبارك «قال: سألتُ أبا إبراهيم (عليه السلام) عن صدقة الفطرة، أهي ممَّا قال الله: «وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ »؟ فقال: نعم...»([4])، وهي ضعيفة بجهالة إسحاق بن المبارك، وكذا غيرها، والله العالم بحقائق أحكامه.
الأمر السَّادس: المعروف أنَّه يجوز للهاشميّ أن يتناول الصَّدقة المندوبة من هاشميّ وغيره، قال في المدارك: «هذا قول علمائنا، وأكثر العامَّة...»، وفي الحدائق: «ظاهر كلام جملة من الأصحاب الاتِّفاق على جواز أخذ الهاشميّ للصَّدقة المندوبة، ونُقل عن العلاَّمة في المنتهى أنَّه نسبه إلى علمائنا وأكثر العامَّة...»، وفي الجواهر: «يجوز للهاشمي غير النَّبيّ والأئمَّة (عليهم الصَّلاة والسَّلام) أن يتناول المندوبة من هاشميّ وغيره، بلا خلاف أجده فيه بيننا، كما اعترف به غير واحد، بل الإجماع بقسمَيْه عليه، بل المحكي منه صريحاً وظاهراً فوق الاستفاضة كالنُّصوص...» .
أقول: هناك تسالم على الجواز في المندوبة لغير النَّبيّ والأئمَّة (عليهم السلام)، بحيث أصبحت المسألة من الواضحات.
ويدل عليه مضافاً إلى التَّسالم : عموم قوله تعالى: «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ ]المائدة: 2[، وقوله تعالى: « قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ ]الشورى: 23[.
ويدلّ عليه أيضاً: جملة من الرِّوايات بلغت حدّ الاستفاضة:
منها: صحيحة عبد الرَّحمان بن الحجّاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أنَّه قال: لو حُرِّمت علينا الصَّدقة لم يحلَّ لنا أن نخرج إلى مكَّة، لأنَّ كلَّ ماءٍ بين مكَّة والمدينة فهو صدقة»([5]).
ومنها: رواية جعفر بن إبراهيم الهاشمي المتقدِّمة أيضاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: قلتُ له: أتحلّ الصَّدقة لبني هاشم؟ فقال: إنَّما تلك الصَّدقة الواجبة على النَّاس لا تحلُّ لنا، فأمَّا غير ذلك فليس به بأس، ولو كان كذلك ما استطاعوا أن يخرجوا إلى مكَّة، هذه المياه عامَّتها صدقة»([6])، ولكنَّها ضعيفة بجهالة محمَّد بن إسماعيل البندقيّ النَّيشابوريّ.
ومنها: موثقة إسماعيل بن الفضل الهاشمي «قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصَّدقة التي حُرِّمت على بني هاشم، ما هي؟ فقال: هي الزَّكاة...»([7])، وهي، وإن كانت ضعيفةً بطريق الشَّيخ (رحمه الله) بالقاسم بن محمَّد الجوهريّ، فإنَّه غير موثَّق، إلاَّ أنَّها موثَّقة بطريق الكلينيّ (رحمه الله)، كما تقدَّم.
ولا يُعارض هذه الرِّوايات المستفيضة رواية إبراهيم بن محمَّد بن عبد الله الجعفريّ «قال: كنَّا نمرّ ونحن صبيان فنشرب من ماء في المسجد من ماء الصَّدقة، فدعانا جعفر بن محمد (عليه السلام)، فقال: يا بني، لا تشربوا من هذا الماء واشربوا من مائي»([8]).
وفيها أوَّلاً: أنَّها ضعيفة بجهالة إبراهيم بن محمَّد بن عبد الله الجعفري.
وأمَّا احتمال أن يكون هو إبراهيم بن أبي الكرَّام الجعفريّ الثِّقة، فهو بعيد؛ لأنَّ أبا الكرَّام من أصحاب الرِّضا (عليه السلام)، كما أنَّها ضعيفة بجهالة محمَّد بن عليّ بن خلف العطَّار.
وثانياً: أنَّها لا تدلّ على الحرمة قطعاً؛ لعدم بلوغ المخاطبين، والظَّاهر أنَّها محمولة على ترجيح الشُّرب من مائه (عليه السلام) لا تحريم الماء الآخر، ويمكن حملها أيضاً على كون الماء المنهي عنه قدِ اشتُري من الزَّكاة.
والخلاصة: أنَّه لا إشكال في الحليّة.
نعم، قد يتوقَّف في الصَّدقة بالنِّسبة إلى النَّبيّ (ص) والأئمَّة (عليه السلام)، بل عن التَّذكرة والشَّهيد الثَّاني (رحمه الله) في المسالك حرمتها على النَّبيّ (ص)؛ لما فيها من الغضاضة والنَّقص وتسلُّط المتصدّق وعلوّ مرتبته على المتصدّق عليه، وأنَّ له المنّة عليه، ومنصب النُّبوّة أرفع وأجلّ وأشرف من ذلك.
وبالمقابل صرَّح جماعة من الأعلام بالجواز، بل هو ظاهر كثير من الأعلام، بل في المعتبر نسبته إلى علمائنا وأكثر أهل العلم.
([1]) الوسائل باب 31 من أبواب المستحقين للزكاة ح3.
([2]) الوسائل باب 10 من أبواب زكاة الفطرة ح8.
([3]) الوسائل باب 1 من أبواب زكاة الفطرة ح11.
([4]) الوسائل باب 1 من أبواب زكاة الفطرة ح9.
([5]) الوسائل باب 31 من أبواب المستحقين للزكاة ح1.
([6]) الوسائل باب 31 من أبواب المستحقين للزكاة ح3.
([7]) الوسائل باب 32 من أبواب المستحقين للزكاة ح5.
([8]) الوسائل باب 31 من أبواب المستحقين للزكاة ح2.
|