قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وتُعطى أطفال المؤمنين، وإن كان آباؤهم فُسَّاقاً، دون أطفال غيرهم(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّ الزَّكاة تُعطى لأطفال المؤمنين دون أطفال غيرهم، وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به بعضهم، بل في المختلف، والرَّوضة والمدارك الإجماع عليه...».
أقول: هناك تسالم في الواقع بين جميع الأعلام قديماً وحديثاً، وفي جميع الأعصار والأمصار، بحيث أصبحت المسألة من الواضحات إن لم نقل من المسلمات.
ومع ذلك، فقدِ استدلّ لذلك مضافاً لإطلاق الكتاب والسُّنّة، حيث إنَّ الموضوع فيهما هو الفقير الشَّامل للكبير والصَّغير بجملة من الرِّوايات بلغت حدَّ الاستفاضة:
منها: حسنة أبي بصير «قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): الرَّجل يموت ويترك العيال، أيعطون مِنَ الزَّكاة؟ قال: نعم، حتَّى ينشأوا ويبلغوا ويسألوا من أين كانوا يعيشون إذا قطع ذلك عنهم، فقلتُ: إنَّهم لا يعرفون؟ قال: يحفظ فيهم ميِّتهم ويحبَّب إليهم دين أبيهم فلا يلبثوا أن يهتمُّوا بدين أبيهم، فإذا بلغوا وعدلوا إلى غيركم فلا تُعطوهم»([1]).
ومنها: صحيحة يونس بن يعقوب «قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): عيال المسلمين، أُعطيهم مِنَ الزَّكاة، فأشتري لهم منها ثياباً وطعاماً، وأرى أنّ ذلك خير لهم؟ قال: فقال: لا بأس»([2])، والمراد من المسلمين هم المؤمنون.
ومنها: رواية أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: ذريّة الرَّجل المسلم إذا مات يعطون مِنَ الزَّكاة والفطرة كما كان يُعطى أبوهم حتَّى يبلغوا، فإذا بلغوا وعرفوا ما كان أبوهم يعرف أُعطوا، وإن نصبوا لم يعطوا»([3])، ولكنَّها ضعيفة لعدم وثاقة معلَّى بن محمَّد.
ومنها: رواية عبد الرَّحمان بن الحجَّاج «قال: قلتُ لأبي الحسن (عليه السلام): رجلٌ مسلمٌ مملوك، ومولاه رجلٌ مسلمٌ، وله مالٌ يُزكِّيه، وللمملوك ولدٌ صغيرٌ حرٌّ، أيجزي مولاه أن يُعطي ابن عبده مِنَ الزَّكاة؟ فقال: لا بأس به.»([4])، والمراد بالرَّجل المسلم هو المؤمن.
ولكنَّ الرِّواية ضعيفةٌ؛ لأنَّ الظَّاهر أنَّ المراد من محمَّد بن إسماعيل الَّذي يروي عنه الكليني هو البندقيّ النَّيشابوريّ المجهول، وكذا غيرها.
ثمَّ لا يخفى: أنَّ مقتضى إطلاق هذه الرِّوايات هو جواز الدَّفع إلى أطفال المؤمنين ولو مع فسق آبائهم، كما ذهب جملة من الأعلام، منهم الماتن (رحمه الله).
وبالجملة، فلا فرق في ذلك بين عدالة الآباء وفسقهم؛ لمعلوميَّة عدم تبعيّة الولد في ذلك؛ لعدم الدَّليل، واشتراط العدالة في المستحقّ إن سلّمنا به، وفي الواقع أننا لا نسلم، لما سيأتي إن شاء الله تعالى هو في القابل للعدالة، وهو البالغ دون الطفل.
ومنه تعرف أنَّ ما ذكره الشَّهيد الثَّاني (رحمه الله) في المسالك من أنَّ هذا يعني أنّ إعطاء الأطفال إنَّما يتم إذا لم نعتبر العدالة في المستحقّ، أمَّا لو اعتبرناها فيمكن القول بعدم جواز إعطاء الأطفال مطلقاً؛ لعدم اتصافهم بها، والجواز، لأنَّ المانع الفسق، وهو منفي عنهم في غير محلِّه، والله العالم.
ثمَّ إنَّ الطفل المتولِّد من المؤمن والمخالف يتبع أباه، فإن كان أبوه مؤمناً وأمُّه مخالفةً جاز إعطاؤه؛ لِصدق أولاد المؤمن عليه عرفاً وشرعاً دون العكس، والمتولِّد من الكافر والمسلم إذا كان أبوه مسلماً يتبعه بلا إشكال.
وأمَّا إن كان أبوه كافراً، وأمُّه مسلمةً، فالأقرب: أنَّه يُعطى لأنَّ الولد تابع لأشرف الأبوَيْن.
ثمَّ إنَّه ينبغي التَّنبيه على أمر مهمٍّ، وحاصله: أنَّ المراد من إعطاء الأطفال، هل هو خصوص التَّمليك بالدَّفع إلى وليّهم، أم يجوز الصَّرف عليهم مباشرةً، أو بتوسُّط أمينٍ إن لم يكن لهم وليٌّ شرعيّ من أبٍ أو جَدٍّ أو قيّمٍ أو حاكم شرعي؟
ولا يخفى عليك: أنَّ قول الأعلام بجواز الصَّرف عليهم بتوسُّط أمين إن لم يكن لهم وليٌّ شرعيّ هو فرض غيرُ واقعٍ؛ لأنَّه لا يُوجد فقير لا وليّ له، فإنَّه إن كان له وليّ من أبٍ أو جدٍّ أو قيّمٍ فهو، وإلاَّ فوليّه الحاكم الشَّرعيّ، فهو وليُّ مَنْ لا وليّ له، وإن لم يوجد الحاكم الشَّرعيّ فعدول المؤمنين.
ومهما يكن، فهل المراد بإعطاء الأطفال هو خصوص التّمليك بالدَّفع إلى وليّهم أم يجوز الصَّرف عليهم؟
يظهر من بعض الأعلام الأوَّل، منهم صاحب الجواهر (رحمه الله)، حيث قال: «ثمَّ لا يخفى أنَّ المراد من إعطاء الأطفال في النَّصّ والفتوى الإيصال إليهم على الوجه الشَّرعيّ المعلوم بالنِّسبة إليهم، فإذا أراد الدَّفع إليهم من سهم الفقراء مثلاً سلّم بيد وليهم؛ لأنَّ الشَّارع سلب أفعالهم وأقوالهم، فلا يترتَّب ملك لهم على قبضهم، ومعلوم اعتبار الملك في هذا السَّهم، واحتمال الاجتزاء به هنا تمسُّكاً بالإطلاق المزبور الَّذي لم يكن مساقاً لذلك في غاية الضَّعف، كاحتمال عدم اعتبار الملك في هذا السَّهم تمسُّكاً بإطلاق الأمر بالإيتاء الشَّامل للأمرَيْن، إذ قد عرفت فيما تقدَّم ظهور الأدلَّة خصوصاً السّنّة في ترتُّب الملك على القبض بالنِّسبة إلى هذا السَّهم...».
ومنهم الشَّيخ الأنصاريّ (رحمه الله) حيث قال في كتاب الزكاة: «هل يجوز للمالك صرف الزكاة للطَّفل، ولو مع وجود الوليّ، كأن يطعمه في حال جوعه وإن لم يعلم بذلك أبوه؟ الظَّاهر عدم الجواز من سهم الفقراء؛ لأنَّ الظَّاهر من أدلَّة الصَّرف في هذا الصِّنف هو تمليكهم إياه، نعم، يجوز في سبيل الله، ويحتمل الجواز من سهم الفقراء؛ بدعوى أنَّ الظَّاهر من تلك الأدلَّة استحقاقهم للزَّكاة لا تمليكهم إياها، فالمقصود هو الإيصال» انتهى.
وذهب الأكثر إلى الثَّاني منهم صاحب المدارك والسّيِّد محسن الحكيم والسّيِّد أبو القاسم الخوئيّ (رحمهم الله)، وهو الصحيح عندنا.
وقد يستدلّ للقول الأوَّل بثلاثة أدلَّةٍ:
الأوَّل: أنَّ الزكاة ملك لكلّيّ الفقير، ولا يملكها الفقير إلاَّ بقبض صحيح، وبما أنَّ قبض الصّغير لا يعتدّ به، فالمالك حينئذٍ لم يُوصل الزَّكاة إلى أصحابها، فتبقى ذمَّته مشغولة.
وفيه: أنَّه لا يظهر من الأدلَّة أنَّ الزَّكاة ملك لكلّيّ الفقير، بل الصَّرف في هذا السَّهم أي سهم الفقراء كالصَّرف في سائر الأصناف، حيث إنَّها مصرف للزَّكاة فقط؛ إذ من المتَّفق عليه عدم التَّمليك في بقيّة الأصناف، والتّفكيك في التّمليك في بعضها والصَّرف في الباقي منافٍ لاتحاد سياقها.
نعم، بالنِّسبة لسهم الفقراء يجوز فيه التَّمليك بالقبض الصَّحيح، كما يجوز الصَّرف المحض، وأمَّا في باقي الأصناف فليس فيها إلاَّ الصَّرف المحض.
([1]) الوسائل باب 6 من أبواب المستحقين للزكاة ح1.
([2]) الوسائل باب 6 من أبواب المستحقين للزكاة ح3.
([3]) الوسائل باب 6 من أبواب المستحقين للزكاة ح2.
([4]) الوسائل باب 45 من أبواب المستحقين للزكاة ح1.
|