(1) ذكرنا سابقاً: أنَّ الأقوى والأفضل هو تأخير الفريضة إلى القدم والقدمين، أو الذِّراع والذِّراعين، لأجل النافلة، والاختلاف في التقدير في القدم والقدمين، والذراع والذراعين: باعتبار طول وقت الإتيان بالنافلة وقصره، وكأنّ هذه القطعة من الزمن والتي هي أوّل الزوال اقتُطِعَت للنافلة، لئَلاّ يلزم التطوع في وقت الفريضة، ولذا لو لم تشرّع النافلة، كما في المسافر، حيث تسقط في حقِّه نوافل الظهرَيْن، فالأفضل حينئذٍ أن يأتي المكلّف بالفريضة أوّل الزَّوال، وكذا في المورد الذي يقدّم فيه النافلة على الزوال كما في يوم الجمعة، فإنّ الأفضل له الإتيان بالفريضة أوّل الزَّوال.
ويشهد لذلك صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق المتقدِّمة « قال: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن وقتِ الظُّهر، فقال: بعد الزَّوالِ بقَدَمٍ، أو نحو ذلك، إلاَّ في يوم الجُمُعة، أو في السَّفر، فإنَّ وقتها حين تزولُ»[i]f205.
وبالجملة: فإنّ الوجه في اختلاف الروايات يكون بحسب اختلاف مراتب الفضيلة، وهو مترتّب على الانتهاء من النافلة، فإنِ انتهى منها، والشَّمس على قدَمٍ، فهذا الوقت هو أفضل ما يكون للفريضة، كما في موثَّقة ذَرِيْح المحاربي: «النصفُ من ذلك أحبُّ إليَّ»، وأفضل منه ما لو حصل الفراغ من النافلة قبل أن يكون ظلّ الشَّمس على قدم.
وتدلُّ عليه: الأخبار المتقدِّمة، والتي منها صحيح زرارة المتقدِّم «قال: قال أبو جعفر عليه السلام: اِعلم أنَّ أَوَّل الوقتِ أبداً أفضلُ، فعجِّل الخيرَ ما استطعتَ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ ما داومَ عليهِ العبدُ، وإنْ قلَّ»[ii]f206، وكذا غيره من الأخبار. وعليه، فإنِ انتهى من النافلة والشَّمس على قدمين فهذا الوقت حينئذٍ أفضل ممَّا لو كانت الشَّمس على أكثر من ذلك.
ويشير إلى ذلك: ما تقدَّم من مكاتبة محمَّد بن الفرج، فهي، وإن كانت ضعيفةً كما عرفت ، إلاَّ أنّ في غيرها من الأخبار الكثيرة غنىً وكفايةً، وهكذا يتدرّج في مراتب الفضل إلى آخر وقت الفضيلة، وهو المِثل في الظهر، والمثلَيْن في العصر.
إن قلتَ: إن كان الأمر كما ذكرت من التدرّج في الفضيلة، فلماذا كان النبي صلى الله عليه وآله يواظِب على الصَّلاة على الذِّراع، كما في الأخبار الكثيرة، والتي منها صحيحة زرارة المتقدِّمة عن أبي جعفر عليه السلام « قال: سألته عن وقت الظهر فقال: ذراعٌ من زوال الشَّمسِ، ووقتُ العصْرِ ذراعان (ذراعاً) من وقت الظُّهر، فذاك أربعة أقدام من زوال الشَّمس، ثمّ قال: إنّ حائط مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله كانَ قامةً، وكان إذا مضى منه ذراعٌ صلَّى الظُّهرَ، وإذا مضى منه ذراعان صلَّى العصرَ»[iii]f207، وكذا موثَّقة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام «قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يصلِّي الظهرَ على ذراعٍ، والعصر على نحو ذلك»[iv]f208، وكذا غيرها من الأخبار.
ومن المعلوم أنَّ لفظة «كان يصلِّي» ظاهرة في الاستمرار، فهذا يدلّ على أنّ التأخير إلى الذراع أفضل مطلقاً.
قلت: الذي يظهر من سيرة النبي صلى الله عليه وآله أنّه كان يؤخِّر إلى الذِّراع، إمَّا انتظاراً لحضور المسلمين إلى المسجد للصَّلاة جماعةً، حيث كان لا يتهيَّأ لهم الحضور أوّل الزَّوال، وإمَّا انتظاراً لفراغهم من النوافل، حيث كانوا يتأخّرون فيها لتأخُّرهم في الوصول إلى المسجد، وإمَّا للأمرَيْن جميعاً.
وبالجملة: فإنَّ انتظاره صلى الله عليه وآله لبلوغ الشَّمس إلى الذِّراع إنَّما كان لمصلحةٍ أخرى غير مصلحة الوقت، وكان مراعاة تلك المصلحة أهمّ من مراعاةِ مصلحة الوقت.
ومن هنا ذكرنا سابقاً: أنَّ مَنْ لم يأتِ بالنوافل عمداً فالأفضل له الصَّلاة أوَّل الزوال.
بقي الكلام في موثق زرارة المتقدم «قالَ: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن وقتِ صلاة الظُّهر في القَيْظِ فلم يجبْنِي، فلمَّا أن كان بعد ذلك قال لعُمَرَ بن سعيد بن هلال: إنَّ زرارة سأَلَني عن وقتِ صلاةِ الظهر في القيظ فلم أخبره، فَحُرِجْت من ذلك، فاقرأه مني السَّلام، وقل له: إذا كان ظلُّك مثلَك فصلِّ الظُّهر، وإذا كان ظلُّك مثلَيْك فصلِّ العصْر»[v]f209، وهو ظاهر جدّاً في أنَّ مبدأ وقت الفضيلة للظهر: بلوغ الظل مثل الشاخص، ولصلاة العصر: بلوغه المثلَيْن، وهو ينافي ما ذهب إليه مشهور الأعلام، لأنَّ مذهبهم أنَّ بلوغ الظلّ مثل الشاخص هو منتهى وقت الفضيلة لصلاة الظُّهر، كما أنَّ بلوغه المثلَيْن هو آخر وقت الفضيلة لصلاة العصر، لا أنَّهما مبدأه.
[i] الوسائل باب 8 من أبواب المواقيت ح11.
[ii] الوسائل باب 3 من أبواب المواقيت ح10.
[iii] الوسائل باب 8 من أبواب المواقيت ح3.
[iv] الوسائل باب 8 من أبواب المواقيت ح24.
[v] الوسائل باب 8 من أبواب المواقيت ح13.
|