قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولو كان في معصية جاز من سهم الفقراء مع توبته إن اشترطنا العدالة (1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّه لو تاب وكان فقيراً صرف إليه من سهم الفقراء، وجاز له حينئذٍ أن يقضي هو دينه منه، كما يجوز له صرفه في سائر مقاصده المباحة فضلاً عن الحقوق الواجبة عليه، واشتراط التَّوبة في الإعطاء من سهم الفقراء مبنيّ على اشتراط العدالة واجتناب الكبائر فيه، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى .
وأمَّا على القول بعدمه، فيجوز صرف الزَّكاة إليه من حيث فقره، وإن لم يتب.
وعليه بعد قبضها وصيروتها ملكاً له الخروج عن عهدة ما عليه من الدَّين من أيِّ وجهٍ حصل.
وكذا يجوز الإعطاء من سهم سبيل الله، بناءً على تعميمه لكلِّ قربةٍ، ومطلق سبيل الخير، وأمَّا لو خصَّصناه بما يرجع إلى الأمور العامَّة والمصالح النَّوعيّة من بناء المساجد وتعمير القناطر وفتح الطُّرقات، ونحو ذلك ممَّا لا يعود إلى شخص بالخصوص كما فيما نحن فيه فلا يجوز، وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث عن ذلك قريباً.
وهل يجوز إعطاؤه من سهم الغارمين مع التَّوبة؟
المشهور بينهم أنَّه لا يجوز؛ لإطلاق الأدلَّة السَّابقة، خلافاً للمحقِّق في المعتبر، حيث جوّز إعطاءه من سهم الغارمين مع التَّوبة، واحتمله العلاَّمة (رحمه الله) في التَّذكرة؛ لإطلاق الآية الشَّريفة.
ولكنَّك عرفت أنَّ الإطلاق مقيَّد بالصَّرف بغير المعصية، ولا دليل على رفع الحكم بالتَّوبة.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولو جُهِل الحال، فالمرويّ: المنع(1)
(1) ذهب كثير من الأعلام إلى أنَّه لو جهل وجه إنفاقه أي هل أنفقه في الطَّاعة أم المعصية جاز إعطاؤه من سهم الغارمين، وحكي عن الشَّيخ (رحمه الله) أنَّه لا يجوز إعطاؤه، وربَّما مال المصنِّف (رحمه الله) إليه.
وقد يُستدلّ لما ذهب إليه الشَّيخ (رحمه الله): برواية محمَّد بن سليمان المتقدِّمة «قلتُ: فما لهذا الرَّجل الَّذي ائتمنه، وهو لا يعلم فيما أنفقه؟ في طاعة الله أم في معصيته؟ قَاْل: يسعى له في ماله فيردُّه عليه وهو صاغر»([1]).
وفيه أوَّلاً: أنَّها ضعيفة السَّند، كما تقدَّم.
وثانياً: بمنع الدَّلالة، كما عن صاحب الحدائق (رحمه الله)، حيث قال: «والرِّواية عند التّأمُّل فيها لا منافاة فيها لما ذكرناه، لأنَّه لما ذكر (عليه السلام) أنَّه إنَّما يعطيه الإمام إذا أنفقه في طاعة الله، وأمَّا إذا أنفقه في المعصية فلا شيء له رجع له الرَّاوي، وقال له: إنَّ صاحب هذا الدَّين لا علم له بكونه أنفقه في طاعة أو معصية، أجابه (عليه السلام) بما معناه أنَّ صاحب الدَّين لا مدخليَّة له في ذلك، وإنَّما المرجع فيه إلى المستدين، فإن كان قد أنفق ما استدانه منه في معصية وجب عليه أن يسعى له فيه ويرده عليه وهو صاغر، هذا حاصل جوابه (عليه السلام). وجهل الإنفاق هنا إنَّما نُسِب إلى صاحب الدَّين لا إلى الإمام حتى يتمّ ما توهّموه من الخبر من أنَّه متى جهل الإمام وجه الإنفاق لم يدفع له من هذا السَّهم...»، وهو على حق.
والخلاصة: أنَّ هذا الدَّليل ليس تامّاً.
والإنصاف: أن يُقال: إنَّ جواز الدَّفع من هذا السَّهم إما مشروط بالصَّرف في الطَّاعة أو أنَّ الصَّرف في المعصية مانع من الإعطاء، فإن كان ذلك شرطاً في الإعطاء فلا بُدَّ من إحراز هذا الشَّرط، ومع عدم إحرازه فلا يجوز الإعطاء حينئذٍ؛ لأنَّ المشروط عدم عند عدم شرطه.
وأمَّا إن كان الصَّرف في المعصية مانع من الإعطاء جاز الإعطاء عند الشَّكّ؛ لأنَّ الأصل عدم المانع، وهذا بخلاف ما لو كان شرطاً، فإنَّه لا يمكن إحرازه بالأصل.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إذا كان المدرك في المسألة هو التَّسالم بين الأعلام، فبما أنَّه دليل لُبِّيّ، فالمتيقَّن منه هو اعتبار عدم المعصية، أي عدم جواز الإعطاء للدَّين المصروف في المعصية.
وبعبارة أخرى: المتيقَّن منه كون الصَّرف في المعصية مانعاً.
وعليه، فعند الشَّكّ في الصَّرف في الطَّاعة أو المعصية يكون الأصل هو عدم المانع فيجوز الإعطاء حينئذٍ.
وأمَّا إن كان المدرك في المسألة هو الرِّوايات، فأغلبها، وإن كان ظاهراً في الشَّرطيّة، إلاَّ أنَّه ضعيف السَّند لا يعول عليه.
نعم، معتبرة الحسين بن علوان ظاهرة في المانعيَّة كما لا يخفى، أُنظر إلى قوله (عليه السلام) فيها: «إذا استدانوا في غير سرفٍ».
وعليه، فسواء أكان المدرك هو التَّسالم أم معتبرة الحسين علوان.
فالنَّتيجة: هي أنَّ الصَّرف في المعصية مانع، وإذا شككنا في أنَّه صرف في المعصية أو الطَّاعة، فيجوز الإعطاء من هذا السَّهم؛ لأنَّ الأصل عدم المانع.
ويشهد لما ذكرناه: الرِّوايات الواردة في جواز قضاء ديون أبيه أو غيره من المؤمنين الأموات أو الأحياء من الزَّكاة من غير تقييد بالعلم بكونها في طاعة أو عدم كونها في معصية مع قضاء العادة بالجهل بمصرف ديون الغير في الغالب، خصوصاً في الدَّين عن الميِّت، فلو كان العلم بحالها شرطاً في جواز الصَّرف لم تجز الرُّخصة في قضائها من الزَّكاة على الإطلاق.
ثمَّ إنَّ المراد من الإنفاق في غير المعصية هو ما يشمل الواجب والمندوب والمكروه والمباح، وليس المراد من غير المعصية هو خصوص الطَّاعة أي الواجب والمندوب فقط.
كما أنَّه ينبغي أن يعلم أنَّه لا يدخل في العاصي النَّاسي والجاهل بالموضوع، بل والحكم مع عدم التَّقصير، وكذا لا يدخل في العاصي المضطر والمجبور.
ثمَّ إنَّ المراد من الغارم هو كلُّ منِ اشتغلت ذمَّته، ولو بإتلاف، لا خصوص من استدان، والله العالم.
([1]) الوسائل باب 9 من أبواب الدين والقرض ح3.
|