ومنها: مرسلة عليّ بن إبراهيم عن العالم (عليه السلام) في حديث «والغارِمِين: قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة الله من غير إسراف، فيجب على الإِمام أن يقضي عنهم ويفكَّهم من مال الصَّدقات»([1])، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال.
ومنها: رواية محمَّد بن سليمان المرويَّة في الكافي في باب الدُّيون الواردة في تفسير قوله تعالى: «وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ ]البقرة: 280[ عن رجلٍ من أهل الجزيرة يكنى أبا محمد «قَاْل: سأل الرِّضا (عليه السلام) رجل وأنا أسمع فقال له: جعلت فداك! إنَّ الله جلَّ وعزَّ يقول: « وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ أخبرني عن هذه النَّظرة التى ذكرها الله (عز وجل) في كتابه لها حدّ يعرف إذا صار هذا المُعسِر إليه لا بدّ له من أن ينتظر، وقد أخذ مال هذا الرَّجل وأنفقه على عياله، وليس له غلَّة ينتظر إدراكها، ولا دين ينتظر محلّه، ولا مال غائب ينتظر قدومه؟ قال: نعم، ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام، فيقضي عنه ما عليه من الدَّين من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله (عز وجل) ، فإن كان أنفقه في معصية الله (عز وجل) فلا شيء له على الإمام، قلتُ: فما لهذا الرَّجل الذي ائتمنه، وهو لا يعلم فيما أنفقه؟ في طاعة الله أم في معصيته؟ قال: يسعى له في ماله فيردُّه عليه وهو صاغر»([2]).
وقد طعن صاحب المدارك (رحمه الله) على هذه الرِّواية في السَّند قال: «فإنَّا لم نقف عليها مسندةً في شيءٍ من الأصول، ومن ثَمَّ ذهب المصنِّف في المعتبر إلى جواز إعطائه مع التَّوبة من سهم الغارمين. وهو حسن».
واعترض عليه صاحب الحدائق (رحمه الله): بأنَّها موجودة في الكافي، حيث قال: «ولكنَّه معذور حيث لم يقف عليها، كما يفصح عنه إنكاره؛ لوجود هذه الرِّواية عن الرِّضا (عليه السلام) في شيء من الأصول، وهي في كتاب الكافي، لكنَّها حيث لم تكن في كتاب الزَّكاة وإنَّما هي في كتاب الدُّيون لم يطلع عليها...».
وتبعه المحقِّق الهمدانيّ (رحمه الله)، حيث قال: «وأمَّا الرِّواية التي أشار إليها فهي مرويَّة في الكافي في كتاب الدِّيون، فحيث لم تكن في كتاب الزَّكاة كأنَّه لم يطَّلع عليها، وإلَّا فليس لنا أصل أوثق من الكافي...».
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ هذا الاعتراض على صاحب المدارك (رحمه الله) في غير محلِّه؛ لأنَّه لم ينكر أصل وجودها، بل أنكر كونها مسندةً، حيث قال: «فإنَّا لم نقف عليها مسندة في شيءٍ من الأصول...»، وهو على حقٍّ؛ إذ هي مرسلة، وليست مسندةً.
نعم، هي ضعيفة بالإرسال، حيث رواها عن رجل من أهل الجزيرة، مضافاً إلى اشتراك محمَّد بن سليمان بين عدَّة أشخاصٍ، وقد عرفت أنَّ عمل المشهور غير جابر لضعف السَّند.
ومنها: رواية صباح بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: قَاْل رسولُ الله (ص): «أيّما مؤمنٍ أو مسلمٍ مات وترك دَيْناً لم يكن في فساد ولا إسراف، فعلى الإمام أن يقضيَه، فإن لم يقضِه، فعليه إثمُ ذلك، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: « إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ ﴾ ]التوبة: 60[، فهو مِنَ الغارمِين، وله سهمٌ عند الإمام، فإن حَبَسه عنه، فإثمه عليه»([3])، وهي ضعيفة أيضاً بجهالة صباح بن سيابة.
ومنها: صحيحة عبد الرَّحمان بن الحجّاج «قَاْل: سألتُ أبا الحسن (عليه السلام) عن رجلٍ عارفٍ فاضلٍ تُوفّي وترك عليه دَيناً قد ابتُلي به لم يكن بمفسدٍ ولا بمسرفٍ، ولا معروف بالمسألة، هل يُقضى عنه مِنَ الزَّكاة الألف والألفان؟ قَاْل: نعم»([4]).
ويرد عليها: أنَّ هذه القيود مذكورة في كلام السَّائل، وليست مذكورة في كلام الإمام (عليه السلام).
وعليه، فالجواب من الإمام (عليه السلام) بالجواز لا يدلّ على نفيه عن غيرها.
والخلاصة: أنّه ليس في الرِّوايات المستدلّ بها على المقام ما هو تام سنداً ودلالةً إلاّ معتبرة الحسين بن علوان.
بقي شيءٌ في المقام، وهو أنَّه ورد في روايتَيْن أنَّ الدَّين لا يسدد من سهم الغارمين إذا كان لأجل المهر:
الأُولى: ما رواه ابن إدريس في آخر السَّرائر نقلاً من كتاب محمَّد بن عليّ بن محبوب عن يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن عبد الرَّحمان بن الحجّاج أنَّ (عن) محمَّد بن خالد «قَاْل: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصَّدقات، فَقَاْل: اِقسمها في مَنْ قال الله (عز وجل) ، ولا تُعْطِين من سهم الغارِمين الَّذين ينادون بنداء الجاهليَّة شيئاً، قلتُ: وما نداءُ الجاهليَّة؟ قال: هو الرَّجل يقول: يا لبني (آل بني) فلان، فيقع بينهما القتل والدِّماء، فلا يؤدُّوا ذلك من سهم الغارمين، ولا الذين يغرمون من مهور النِّساء، ولا أعلمه إلاَّ قال: ولا الَّذين لا يبالون ما صنعوا في أموال النَّاس»([5]).
وقد ذكرنا في أكثر من مناسبة أنَّ ابن إدريس (رحمه الله) لم يذكر طريقه للأصول التي أخذ منها الرِّوايات في آخر السَّرائر، إلاَّ أنَّه ذكر أنَّ كتاب محمَّد بن عليّ بن محبوب وصل إليه بخط الشَّيخ، وخط الشَّيخ معروف عندهم.
وعليه، فهذه الرِّواية ليست مرسلةً.
نعم، هي ضعيفة بجهالة محمَّد بن خالد الذي يروي عنه عبد الرَّحمان بن الحجّاج، وهو ليس البرقيّ حتماً؛ لأنَّه لم يدرك الإمام الصَّادق (عليه السلام) قطعاً، بل هناك زمن معتدّ به بينه وبين الإمام الصَّادق (عليه السلام).
وعليه، فلم يعرف من هو محمَّد بن خالد، فيكون مجهولاً. مع احتمال أن يكون هو محمد بن خالد القسري المجهول.
الثَّانية: مرسلة العبَّاس عمَّنْ ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: الإمام يقضي عَنِ المؤمنين الدُّيون ما خلا مهور النِّساء»([6])، وهي ضعيفة بالإرسال.
والخلاصة: أنَّه لا دليل على استثناء مهور النِّساء من سداد الدَّين، فمقتضى الإطلاق في الرِّوايات جواز الدَّفع من سهم الغارمين في مطلق الدُّيون حتَّى مهور النِّساء، والله العالم.
([1]) الوسائل باب 1 من أبواب المستحقّين للزّكاة ح7.
([2]) الوسائل باب 9 من أبواب الدين والقرض ح3.
([3]) الكافي: ج1، ص407، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية وحق الرعية على الإمام ح7.
([4]) الوسائل باب 46 من أبواب المستحقين للزكاة ح1.
([5]) الوسائل باب 48 من أبواب المستحقّين للزَّكاة ح1.
([6]) الوسائل باب 9 من أبواب الدّين والقرض ح4.
|