وأمَّا القول الآخر القائل: بأنَّ المكتسب لا يعطى إلاَّ ما يتمّم كفاية السَّنة، ولا يجوز أن يدفع له ما يكفيه لسنين، فيشهد له ما دلَّ على أنَّ الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به، ولو علم الله أنَّ ذلك لا يسعهم لزادهم، كما في صحيحة زرارة ومحمَّد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، حيث ورد فيها «فقال: إنَّ الله فرض للفقراء في مال الأغنياء...»([1])، وغيرها مِنَ النُّصوص، حيث يُستفاد منها أنَّ الله تعالى لم يجعل لهم أزيد من مقدار حاجتهم.
وفيه: أنَّها ليس ظاهرة في ذلك، نعم هي مشعرة فيه، والإشعار ليس بحُجَّة.
وقد يُستدلّ أيضاً ببعض الرِّوايات:
منها: صحيحة معاوية بن وهب المتقدِّمة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، حيث ورد في ذيلها «ويأخذ البقية مِنَ الَّزكاة...»([2]).
وفيه: أنها ليست ظاهرة في المنع من الزَّائد عن مؤونة السَّنة، وإنَّما هو مجرَّد إشعار غير بالغ حدّ الدَّلالة.
ومنها: معتبرة هارون بن حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، حيث ورد في ذيلها «فَلْينظرْ مَاْ يَسْتَفْضِل منها فَلْيأكله هو ومَنْ يسعه ذلك، وَلْيأخذ لِمَنْ لم يَسَعه من عيالِه»([3]).
وفيه أيضاً: أنَّها ليست ظاهرة في المنع من الزَّائد عن مؤونة السَّنة، وإنَّما هي مشعرة بذلك والإشعار ليس بحُجَّة.
ومثلها موثَّقة سماعة المتقدِّمة، حيث ورد فيها «فَلْيعف عنها نفسه وَلْيَأْخذها لعيالِه»([4])، فإنَّها ليست ظاهرةً في المنع من الزَّائد عن المؤونة، وإن كانت مشعرةً بذلك.
ومنها: مرسلة عبد الرَّحمان بن الحجّاج عمّن سمعه وقد سمّاه عن أبي عبد الله (عليه السلام)، حيث ورد في ذلها «فإنَّ النَّاس إنَّما يعطون مِنَ السَّنة إلى السَّنة، فلِلرَّجل أن يأخذ ما يكفيه ويكفي عياله مِنَ السَّنة إلى السَّنة»([5])، وهي، وإن كانت ظاهرةً في المنع من أخذ الزَّائد عن مؤونة السَّنة، إلاَّ أنَّها ضعيفة بالإرسال.
ومثلها رواية عليّ بن إسماعيل الدّغشيّ المتقدِّمة، حيث ورد في ذيلها «قَاْل: يأخذ وعنده قوت شهر ما يكفيه لسنته مِنَ الزَّكاة لأنَّها إنَّما هي من سنةٍ إلى سنة»([6])، ولكنَّها ضعيفة أيضاً بجهالة علي بن إسماعيل الدغشي.
والخلاصة: أنَّ ما كان سنده معتبراً فهو ضعيف الدَّلالة؛ لأنَّها مجرَّد إشعارات لم تبلغ مرتبة الظُّهور، وما كانت دلالته تامَّة فهو ضعيف السَّند.
والإنصاف: أنَّ ما ذهب إليه المشهور هو الأقوى للرِّوايات الدَّالّة على جواز الإغناء التي سبق وذكرناها.
وأمَّا الروايات التي قيل: بأنَّها ظاهرة في الغنى الشَّرعيّ المتحقِّق بدفع ما يكفي لمؤونته السَّنويّة لا أزيد، فلا تنافي أدلَّة القول الآخر، بل هي مؤيِّدة له.
وعليه، فلا يبقى دليل على جواز الإعطاء أكثر من مؤونة السَّنة.
ولكن يرد عليه: أنَّها ليست ظاهرةً في الغنى الشَّرعيّ، بل التّأمُّل فيها يفضي إلى أنَّ المراد من الغنى هو الغنى العرفيّ الرَّافع لحاجته، مثل أن يعطيه ضيعةً أو عقاراً أو مقداراً من المال يتمكَّن معه من شراء مثل ذلك أو يتمكَّن معه من الاكتساب به على وجه يعدّ معه في العرف من الأغنياء غير المحتاجين في مؤونتهم إلى الغير.
أضف إلى ذلك: أنَّ صحيحة أبي بصير المتقدِّمة نصّ في جواز أخذ الفقير من الزَّكاة زائداً عمَّا يحتاج إليه في أكله وشربه وكسوته بمقدار ما يتمكَّن من التَّزويج والصَّدقة والحجّ.
وذكر هذه الأمور في الصَّحيحة المزبورة جارٍ مجرى التَّمثيل، أريد به بيان جواز تناول الفقير من الزَّكاة زائداً عن ضروريَّات معاشه بمقدار ما يتمكَّن معه من القيام بمثل هذه المصارف الكثيرة من غير ضرورة عرفيَّة ملجئة إليها.
نعم، الأحوط ترك الإفراط في الإغناء بأن يُعطى لواحد مالاً خطيراً زائداً عمَّا يحتاج إليه عادةً في تعيشه.
ثمَّ إنَّ هذا كلّه في الإعطاء دفعةً، وأمَّا إذا أُريد إعطاؤه دفعات فلا إشكال في عدم جواز ما زاد منها على كفاية السَّنة؛ ضرورة صيرورته غنيّاً بالدَّفعة الأُولى مثلاً، فلا يجوز إعطاؤه حينئذٍ، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولوِ اشتغل بالفِقه ومحصلاته عن التّكسُّب جاز الأخذ (1)
(1) ذهب جماعة من الأعلام إلى أنَّه يجوز للقادر على الاكتساب ترك الكسب والأخذ من الزَّكاة للاشتغال بأمر واجب، ولو كفاية كالتفقُّه في الدِّين.
أقول: هناك ثلاثة أقوال:
الأوَّل: هو القول بجواز الأخذ من الزَّكاة للقادر على الاكتساب، سواء أكان الاشتغال بطلب العلم على نحو الوجوب أم الاستحباب، ويظهر هذا الإطلاق من الشَّهيدَيْن والعلاَّمة (رحمهم الله) وغيرهم.
الثَّاني: هو المنع مطلقاً، ولو كان الاشتغال بطلب العلم واجباً عينيّاً، ذهب إلى هذا القول بعض الأعلام.
الثَّالث: هو التَّفصيل بين وجوب الاشتغال بطلب العلم فيجوز، وعدمه فلا يجوز، ذهب إلى ذلك بعض الأعلام، منهم السَّيد محسن الحكيم (رحمه الله) في المستمسك.
أقول: قد يستدلُّ لهذا التَّفصيل بأنَّ عمومات تحريم الزَّكاة على القادر على التّكسُّب تجعل التّكسُّب واجباً لأجل حفظ نفسه وعياله فلا يزاحمه استحباب طلب العلم؛ لأنَّ المستحب لا يزاحم الواجب بالاتِّفاق.
كما أنه قدِ استُدل على المنع مطلقاً: بأنَّ وجوب طلب العلم لا يصلح لمزاحمة وجوب التّكسُّب لحفظ النَّفس عن الهلاك؛ لأنَّ ذلك الوجوب أهمّ.
وفيه: أنَّ حفظ النَّفس لا يتوقَّف على خصوص الاكتساب فضلاً عن كونه بمقدار يخرجه عن حدّ الفقر، فإنَّه يكفي في حفظ النَّفس تحصيل قوت يسدّ به رمقه لدى احتياجه إليه بنحو من الأنحاء، سواء أكان بالاكتساب أو بالاستدانة أو الاستعطاء من أصدقائه وأقاربه أو سائر المسلمين، أو غير ذلك من طرق التَّحصيل.
([1]) الوسائل باب 1 من أبواب المستحقين للزَّكاة ح1.
([2]) الوسائل باب 12 من أبواب المستحقِّين للزَّكاة ح1.
([3]) الوسائل باب 12 من أبواب المستحقِّين للزَّكاة ح4.
([4]) الوسائل باب 12 من أبواب المستحقِّين للزَّكاة ح2.
([5]) الوسائل باب 24 من أبواب المستحقِّين للزَّكاة ح9.
([6]) الوسائل باب 8 من أبواب المستحقِّين للزَّكاة ح7.
|