(1) لم يذكر المصنِّف R استحباب جعل الميضاة على أبواب المساجد، أي القريبة منها، وإنّما ذكر فقط استحباب ترك الوضوء في المساجد من البول والغائط.
قال صاحب المدارك R، وغيره من الأعلام أنّ «المراد بالميضاة هنا المطهَرة...».
أقول: المراد بالمطهَرة الموضع المعدّ للتخلّي والاستنجاء، أي بيت الخلاء.
ويدلّ على استحباب كون الميضاة على أبوابها رواية عبد الحميد عن أبي إبراهيم N «قال: قال رسول الله C في حديثٍ واجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم»[i]f766، ولكنّها ضعيفة بسهل بن زياد، وبجهالة جعفر بن محمّد بن بشّار، وعبد الله الدهقان.
وقالوا: ويؤيِّد جعلها على أبواب المساجد أنّ فيها مصلحة للمتردّدين، مع التجنّب عن أذيّة رائحتها للمصلّين، وعنِ احتمال سراية النجاسة إلى المسجد.
ثمّ إنّ قضية ذكر الأعلام استحباب خروج الميضاة جواز كونها في المساجد، وهو كذلك مع سبقها على المسجديّة، فيصير المسجد حينئذٍ ما عداها.
وعن السّرائر: «منع جَعْل الميضاة في وسط المسجد» وهو جيد إن سبقت مسجديّة محلّها.
ثمّ إنّك عرفت استحباب ترك الوضوء من حدث الغائط والبول في المسجد، وأغلب الأعلام ذكروا كراهة الوضوء، وهو الأقرب، لصحيح رفاعة بن موسى «قال: سألتُ أبا عبد الله N عن الوضوء في المسجد، فكرهه من البول، والغائط»[ii]f767.
وفي المدارك: «أنّه يمكن حَمْل الوضوء فيها على الاستنجاء، أو على ما يتناوله، كما أومأَ إليه في المعتبر...»، وحُكي عن الشّيخ R في المبسوط منع الاستنجاء من البول والغائط في المسجد وإن لم يتنجس المسجد، قال صاحب الجواهر: «وكأنّه فَهِم من الخبر المزبور الاستنجاء، ومن الكراهة فيه الحرمة، ولا ريب في ضعفه للأصول والعمومات المعتضدة بغيرهما، مع عدم الدليل المعتبر على المنع...».
أقول: لا ريب في المنع مع استلزامِ الهتك لحرمة المسجد، وإلاّ فالأمر كما ذكره صاحب الجواهر R.
(1) المراد به ترك إنشاد الشِّعر في المسجد، لا خصوص رفع الصّوت به، وذكر جماعة من الأعلام كراهة إنشاد الشِّعر، لا استحباب تركه.
وتدلّ على الكراهة صحيحة جعفر بن إبراهيم الجعفري عن علي بن الحسين N «قال: قال رسول الله C: مَنْ سمعتموه يُنشِد الشِّعرَ (شعراً) في المساجدِ فقولوا: فَضَّ الله فاك، إنّما نُصبت المساجد للقرآن»[iii]f768، والرّواية صحيحة، لأنّ جعفر بن إبراهيم هو جعفر بن إبراهيم بن محمّد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ويُعرف بالجعفري، وهو ثقة.
وقدِ استُدلّ أيضاً بحديث المناهي «نهى رسول الله C أن يُنشَد الشِّعرُ في المسجد»[iv]f769، وقد عرفت أنّ حديث المناهي ضعيف جدّاً.
وإطلاق النص وفتاوى الأعلام يقتضي كراهة كلّ شعر.
لكن صرح جماعة من الأعلام باستثناء بعض الأشعار، منهم المصنِّف R، حيث قال: «وليس ببعيد حَمْل إباحة إنشاد الشِّعر على ما يقلّ منه، وتكثر منفعته، كبَيْت حكمة، أو شاهد على لغة في كتاب الله، أو سنة نبيه C، وشبهه، لأنّ من المعلوم أنّ النبي C كان ينشد بين يديه البيت، والأبيات من الشعر في المسجد، ولم ينكر ذلك...».
وألحق به المحقّق الثاني R مدح النبي C، ومراثي الحسين N، وفي البحار: «ولأنّ مدحهم S عبادة عظيمة، والمسجد محلّها، فيختصّ المنع بالشِّعر الباطل...».
أقول: مما يدلّ على الاستثناء عدّة رواياتٍ:
منها: صحيحة علي بن يقطين «قال: سألتُ أبا الحسن N عن الكلام في الطواف وإنشاد الشِّعر إلى أن قال لا بأس به، والشعر ما كان لا بأس به منه»[v]f770، إذ الظّاهر إرادة نفي الكراهة فيما لا بأس به من الشِّعر، لا الحرمة.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى N المروية في كتابه على ما ذكره صاحب الوسائل R «قال: سألتُه عن الشِّعر أيصلح أن ينشد في المسجد؟ فقال: لا بأس»[vi]f771، ونفي البأس محمول على نفي الكراهة لا الحرمة، سيّما مع ملاحظة ظهور سؤال السّائل في إرادة الصّلاحية بمعنى عدم الكراهة، بل علوّ رتبة عليّ بن جعفر في العلم قد يأبى سؤاله عن الحرمة.
ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم على ما رواه الصّدوق R في كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة «قال: حدثني أبي قال: حدثني سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر N «قال: بينما رسول الله C ذات يوم بفناء الكعبة يوم افتتح مكّة إذ أقبل إليه، وفد فسلّموا عليه، فقال رسول الله C: مَنْ القوم؟ قالوا: وفد بكر بن وائل، فقال: فهل عندكم علم من خبر قسّ بن ساعدة الأيادي قالوا: نعم، يا رسول الله! C قال: فما فعل قالوا: مات ثمّ ساق الحديث، إلى أن قال: «ثمّ قال رسول الله C: رحم الله قسّاً، يُحشر يوم القيامة أمّةً واحدة، قال: هل فيكم أحد يحسن من شعره شيئاً، فقال بعضهم: سمعته يقول:
في الأوّلين الذاهبين
|
من القرون لنا بصائر
|
لما رأيت مواردا
|
للموت ليس لها مصادر...»[vii]f772ا
|
وهذه الصحيحة ظاهرة في نفي الكراهة، لإنشاد الشعر بين يديه C في المسجد الحرام الذي هو أشرف البقاع.
[i] الوسائل باب 66 من أبواب أحكام المساجد ح2.
[ii] الوسائل باب 66 من أبواب أحكام المساجد ح1.
[iii] الوسائل باب 69 من أبواب أحكام المساجد ح2.
[iv] الوسائل باب 69 من أبواب أحكام المساجد ح3.
[v] الوسائل باب 69 من أبواب أحكام المساجد ح4.
(*) الطمر بكسر الطاء : جمع أطمار، الثوب الخلق.
[vi] الوسائل باب 69 من أبواب أحكام المساجد ح6.
[vii] الوسائل باب 10 من أبواب أحكام المساجد ح3.
|