وقد يستدلُّ لهذا القول: بظهور الأدلَّة في سببيَّة بلوغ ما أنبتتِ الأرض خمسة أوسُق في وجوب العُشر بالنِّسبة إلى كلِّ جزءٍ من أجزاء النِّصاب.
وقد علم ممّا دلَّ على استثناء المؤونة عدم وجوبه في جميع أجزاء النِّصاب، فيرفع اليد عن هذا الظَّاهر بالنِّسبة إلى ما يقابل المؤونة ويعمل فيما بقي على حسب ما تقتضيه سببيَّة النِّصاب للوجوب.
وفيه: ما ذكرناه سابقاً من تعارض الظَّاهر بظهور قوله (عليه السلام): «ففيه العُشر» في إرادة عشر مجموع الخمسة أوسُق لا إرادة عُشر خصوص ما يبقى بعد المؤونة.
القول الثَّالث: وهو القول بالتَّفصيل الذي ذهب إليه الشَّهيد الثَّاني (رحمه الله) في المسالك، فقد يستدلُّ له بإطلاق الحكم بوجوب العُشر فيما بلغ خمسة أوسُق، حيث إنَّ ظاهر قوله (عليه السلام): «ففيه العُشر» إرادة عُشر جميع الأوسُق الخمسة.
وبما أنَّه لا تجب الزَّكاة فيما قابل المؤونة، فمعنى ذلك تقييد بلوغ النِّصاب بكونه بعد إخراج البذر وأجرة الحرث وغيرهما من المؤن السَّابقة للوجوب.
وأمَّا المؤن اللاَّحقة كالحصاد ونحوه، فليس إخراجها منافياً لاعتبار النِّصاب قبلها، بل هو من مقتضيات قاعدة الشَّركة الموزَّعة على المالك والفقراء، فيُؤخذ العُشر من الباقي وإن قلَّ.
وفيه: أنَّه لا فرق فيما ذكرناه سابقاً بين المؤن السَّابقة واللاَّحقة، وتأخُّر بعضها في الوجوب لا ينافي اعتبار كون النِّصاب بعدها كالمؤن السَّابقة، وأمَّا قاعدة الشَّركة فلم تثبت.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ مقتضى الإنصاف هو ما ذكره المشهور من عدم الفرق بين المؤن السَّابقة واللاَّحقة في اعتبار النِّصاب بعدها، والله العالم بحقائق أحكامه.
الأمر الثَّاني: في المراد بالمؤونة.
والمراد منها: هو معناها العرفي، قال الشَّهيد الثَّاني (رحمه الله) في المسالك: «والمراد بالمؤن ما يغرمه المالك على الغلَّة ممَّا يتكرَّر كلّ سنةٍ عادةً، وإن كان قبل عامه كأجرة الفلاحة، والحرث والسَّقي، والحفظ، وأجرة الأرض، وإن كانت غصباً، ولم ينوِ إعطاء مالكها أجرتها، ومؤونة الأجير، وما نقص بسببه من الآلات والعوامل، حتى ثياب المالك ونحوها، ولو كان سبب النَّقص مشتركاً بينها وبين غيرها وزّع، وعين البذر إن كان من ماله المزكَّى، ولو اشتراه تخيَّر بين استثناء ثمنه وعينه...».
وفي فوائد الشَّرائع للكركيّ (رحمه الله): «كلما يحتاج إليه الزرع عادة فهو من المؤن، سواء تقدم على الزرع كالحرث والحفر وعمل الناضح ونحو ذلك، أو قاربه كالسقي والحصاد والجذاذ وتنقية مواضع الماء مما يحتاج إليه في كل سنة، لا أعيان الدولاب والآلات ونحو ذلك، نعم يحسب نقصها لو نقصت، والبذر من المؤونة فيستثنى، لكن إذا كان مزكى سابقا أو لم تتعلق به الزكاة سابقاً، ولو اشتراه، لم يبعد أن يقال: يجب أكثر الأمرين من ثمنه وقدر قيمته».
أقول: اِعلم أنَّه لم يرد في شيءٍ من الرِّوايات الواصلة إلينا التَّصريح باستثناء المؤونة، إلاَّ في الفِقه الرَّضوي، حيث ورد التَّعبير بلفظ (المؤونة).
وفيه أوَّلاً: أنَّه ليس حجةً، كما ذكرنا في أكثر من مناسبة.
وثانياً: أنَّ لفظ (المؤونة) الوارد في الفِقه الرَّضوي لم يُضَف إلى الزَّرع أو الغلَّة، بل إلى القرية.
وعليه، فقدِ التزمنا باستثناء المؤونة الواردة في كلمات الأعلام من باب القول بعدم الفصل بين بعض المؤن التي دلَّت الأدلَّة على استثنائها، كأجر الحارس والعِذق والعِذقَيْن له.
وعليه، فإن بنينا على أنَّ لفظ (المؤونة) المستكشفة من القول بعدم الفصل هي بمنزلة كونها واردةً في نصٍّ معتبرٍ كما هو الإنصاف فيجب الرُّجوع حينئذٍ إلى العرف في تشخيص مفهومها.
وبما أنَّ هذه الكلمة أي المؤونة لا يخلو مؤدَّاها من إجمال، فالقدر المتيقَّن منها ما ينفقه على نفس هذه الزِّراعة، من بذر وأجرة حرث وإجارة الأرض في تلك المدَّة، وتستطيح الأرض، وتنقية النَّهر.
وأمَّا مثل ثمن الأرض أو العوامل التي يشتريها للزِّراعة أو الآلات التي يستعملها فيها ممَّا يبقى عينها في ملكه بعد استيفاء الحاصل، فهي خارجة عن ذلك.
كما أنَّ الإنصاف: أنَّ ما يرد على الآلات والأدوات والأرض التي حصل فيه الزَّرع من النَّقص يُحسَب من المؤونة، والله العالم والهادي إلى الصَّواب.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا تتكرَّر فيها الزَّكاة بعدُ وإن مضى عليها أحوال(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّ الزَّكاة لا تتكرَّر في الغلاَّت بعد أن أدَّاها، وفي المدارك: «هذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب، بل قال المصنِّف في المعتبر: إنَّ عليه اتِّفاق العلماء عدا الحسن البصريّ، قال: ولا عبرة بانفراده...»
وفي الجواهر: «إجماعاً بقسمَيْه ونصوصاً، مضافاً إلى اقتضاء الأمر الطَّبيعة ولا معارض له، بخلافه في الأنعام والنَّقدَيْن، كما هو واضح».
أقول: هذه المسألة ممَّا تسالم عليه الأعلام قديماً وحديثاً، وخرجت عنِ الإجماع المصطلح عليه.
وأمَّا قول صاحب الجواهر (رحمه الله): «مضافاً إلى اقتضاء الأمر الطَّبيعة».
ففيه: ما ذكرناه في محلِّه من أنَّ الأمر لا يقتضي المرَّة ولا التِّكرار.
أقول: يدلُّ عليه مضافاً إلى التَّسالم حسنة زرارة وعبيد بن زرارة جميعاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: أيُّما رجلٍ كان له حرث أو ثمرة، فصدَّقها، فليس عليه فيه شيءٌ وإنْ حال عليه الحَوْل عنده، إلاَّ أن يحوِّل مالاً، فإن فَعَل ذلك فحال عليه الحَوْل عنده فعليه أن يُزكِّيه، وإلاَّ فلا شيء عليه، وإن ثبت ذلك ألف عامٍ إذا كان بعينه، فإنَّما عليه فيها صدقة العُشر، فإذا أدَّاها مرَّةً واحدةً فلا شيء عليه فيها حتى يحوِّله مالاً، ويحول عليه الحَوْل وهو عنده.»([1]).
وأمَّا بالنِّسبة للأنعام والنَّقدَيْن، فقد عرفت أنَّ الزَّكاة تتكرَّر فيهما مع وجود باقي الشَّرائط.
([1]) الوسائل باب 11 من أبواب زكاة الغلاَّت ح1.
|