والخلاصة: أنَّه لم يبقَ عندنا إلاَّ موثَّقة الفضلاء ومرسلة عليّ بن بابويه، حيث قال في كتاب الفِقه الرَّضوي: «ونروي: أنَّه ليس على الذَّهب زكاةٌ حتَّى يبلغ أربعين مثقالاً، فإذا بلغ أربعين مثقالاً ففيه مثقال، وليس في نيف شيء حتَّى يبلغ أربعين»([1])، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال.
ومقتضى الجمع العرفيّ بين موثَّقة الفضلاء وبين غيرها من الرِّوايات المتقدِّمة هو حَمْل الزَّكاة فيما دون الأربعين على الاستحباب.
وأمَّا الإجماع المدَّعى على وجوبها في العشرين، ففي غير محله؛ لأنَّ الإجماع المحصَّل غيرُ حاصلٍ؛ لاحتمال الاستناد إلى الرِّوايات المتقدِّمة، فلا يكون إجماعاً تعبُّديّاً كاشفاً عن قول المعصوم (عليه السلام).
وأمَّا الإجماع المنقول بخبر الواحد، فهو ليس حُجَّة، كما عرفت.
وأمَّا إعراض المشهور عن موثَّقة الفضلاء، فقد عرفت أيضاً أنَّ إعراض المشهور لا يضرُّ بصحَّة الرِّواية، لاسيَّما أنَّ كثيراً من المتقدِّمين نُسِب إليهم القول بمضمون موثَّقة الفضلاء.
والنَّتيجة إلى هنا: أنَّ مقتضى الصِّناعة العلميَّة هو صحَّة ما ذهب إليه ابنا بابويه (رحمهما الله) من أنَّ النِّصاب الأوَّل أربعون دينارًا.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا فيما دون أربعة بعده(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّ النِّصاب الثَّاني أربعة دنانير، وهي ثلاثة مثاقيل صيرفيَّة، وفيها قيراطان؛ إذ كلُّ دينارٍ عشرون قيراطاً.
ثمَّ إنَّه نُسِب الخلاف هنا إلى عليِّ بن بابويه (رحمه الله)، فجعل النِّصاب الثَّاني أربعين مثقالاً.
ولكنَّ المعروف عند الأعلام أنَّ خلاف ابن بابويه إنَّما هو في النِّصاب الأوَّل، كما تقتضيه أيضاً موثَّقة الفضلاء المتقدِّمة، وصحيحة زرارة المرويَّة في التَّهذيب المتقدِّمة أيضاً المستدلّ بهما على مذهبه.
ومهما يكن، فإنَّ الرِّوايات وافية بإثبات ما ذهب إليه المشهور، وأمَّا خلاف ابن بابويه فهو غير ثابت، وعلى فرض ثبوته فلا دليل عليه، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا فيما دون مائتي درهم من الفِضَّة وأربعين بعدها(2)
(2) المعروف بين الأعلام أنَّه لا زكاة في الفِضَّة حتى تبلغ مائتي درهم ففيها خمسة دراهم، ثمَّ كلَّما زادت أربعين ففيها درهم، وليس فيما ينقص عن الأربعين زكاةٌ، كما ليس فيما ينقص عن المائتين زكاةٌ.
وفي المدارك: «أمَّا أنَّه لا تجب الزَّكاة في الفِضَّة حتى تبلغ مائتي درهم، فإذا بلغت ذلك وجب فيها خمسة دراهم،فقال المصنِّف في المعتبر: إنَّه قول علماء الإسلام، وقد تقدَّم من النَّصّ ما يدلُّ عليه. وأمَّا أنَّه لا زكاة في الزَّائد على المائتين حتَّى تبلغ أربعين فيجب فيها درهم، فقال في المنتهى: إنَّه قول علمائنا أجمع...».
أقول: تدلَّ على ذلك جملة من الرِّوايات:
منها: صحيحة الحسين بن بشَّار «قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) في كم وضع رسول الله (ص) الزَّكاة؟ فقال: في كلِّ مائتي درهم خمسة دراهم، وإن نقصت فلا زكاة فيها...»([2]).
ومنها: موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: قال: في كلِّ مائتي درهمٍ خمسة دراهم مِنَ الفِضَّة، وإن نقصتْ فليس عليك زكاةٌ...»([3]).
ومنها: موثَّقة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) في حديث «قالا: في الورِق في كلِّ مائتين خمسة دراهم، ولا في أقلَّ من مائتي درهمٍ شيءٌ، وليس في النَّيِّف شيءٌ حتَّى يتمَّ أربعون، فيكون فيه واحد»([4]).
ومنها: موثَّقة زرارة وبكير ابني أعين أنَّهما سمعا أبا جعفر (عليه السلام) «يقول: في الزَّكاة إلى أن قال: ليس في أقلَّ من مائتي درهمٍ شيءٌ، فإذا بلغ مائتي درهم ففيها خمسة دراهم، فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مائتي درهم وأربعين درهماً غير درهم إلاَّ خمسة دراهم، فاذا بلغت أربعين ومائتي درهم ففيها ستَّة دراهم، فإذا بلغت ثمانين ومائتي درهم ففيها سبعة دراهم، وما زاد فعلى هذا الحساب، وكذلك الذَّهب، وكلُّ ذهب...»([5]).
ومنها: صحيحة الحلبي «قال: سُئِل أبو عبد الله (عليه السلام) عنِ الذَّهبِ والفِضَّة، ما أقلّ ما تكون فيه الزَّكاة؟ قال: مائتا درهم وعدلها منَ الذَّهب، قال: وسألته عن النَّيِّف الخمسة والعشرة؟ قال: ليس عليه شيءٌ حتَّى يبلغ أربعين، فيعطى من كلِّ أربعين درهماً درهماً»([6])، وكذا غيرها من الرِّوايات.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: والمخرج ربع العُشُر عيناً أو قيمةً(1)
(1) يستفاد ذلك من الرِّوايات المتقدِّمة، وأمَّا جواز كون المخرج ربع العُشْر قيمةً، فقد ذكرناه بالتَّفصيل عند قول المصنِّف سابقاً: «بلِ القيمة، وتجزئ في الجميع»، فراجع، فإنَّه مهمٌّ.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: والدِّرْهم نصف المثقال وخُمُسه وزناً، أو ثمانية وأربعون حبَّة شعير هي ستَّة دوانيق(2)
(2) أقول: ظاهر الشَّيخ (رحمه الله) في الخلاف: «هو إجماع الأمَّة على أنَّ الدِّرْهم نصفُ مثقالٍ شرعيٍّ وخُمُسه...»، وفي المدارك: «لا خفاء في أنَّ الواجب حَمْل الدِّرهم الواقع في النُّصوص الواردة عن أئمَّة الهدى (صلوات الله عليهم) على ما هو المتعارف في زمانهم (عليهم السلام)، وقد نقل الخاصَّة والعامَّة أنَّ قدر الدِّرْهم في ذلك الزَّمان ستَّة دوانيق، ونصَّ عليه جماعة من أهل اللُّغة...».
وقال العلاَّمة (رحمه الله) في القواعد: «والدّرْهم ستَّة دوانيق، والدَّانق ثماني حبَّات من أوسط حبِّ الشَّعير، والمثاقيل لم تختلف في جاهليَّة ولا إسلام، أمَّا الدّراهم فإنَّها مختلفة الأوزان، واستقرَّ الأمر في الإسلام على أنَّ وزن الدِّرْهم ستَّة دوانيق، كلُّ عشرة منها سبعة مثاقيل من ذهب».
وقال المصنِّف (رحمه الله) في البيان: «والمعتبر في الدِّينار بزنة المثقال، وهو لم يختلف في الإسلام ولا قبله، وفي الدِّرْهم استقرَّ عليه في زمن بني أميَّة بإشارة زين العابدين (عليه السلام) بضمِّ الدّرهم البغليِّ إلى الطَّبريِّ، وقسمتها نصفين، فصار الدِّرهم ستَّة دوانيق، كل عشرة سبعة مثاقيل ولا عبرة بالعدد في ذلك...».
([2]) الوسائل باب 2 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح3.
([3]) الوسائل باب 2 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح4.
([4]) الوسائل باب 2 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح7.
([5]) الوسائل باب 2 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح10.
([6]) الوسائل باب 2 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح1
|