أقول: إنَّ رواية الجعفريَّات، وإن كانت ضعيفةً بعدم وثاقة موسى بن إسماعيل، وبترك جميع الأعلام للعمل بها، إلاَّ أنَّه يظهر من كلام المصنِّف (رحمه الله) في البيان أنَّه توقَّف في خصوص زكاة التِّجارة، لا زكاة المال مِنَ النَّقدين، والأنعام الثلاثة، والغلاَّت الأربع، وهذه عبارته: «والدَّين لا يمنع زكاة التِّجارة، كما مرَّ في العينيَّة، وإن لم يمكن الوفاء من غيره، لأنَّها، وإن تعلَّقت بالقيمة فالأعيان مرادة، وكذا لا يمنع من زكاة الفطرة إذا كان مالكاً مؤونة السَّنة إلى أن قال: نعم، يمكن أن يقال: لا يتأكَّد إخراج الزَّكاة التَّجارة للمديون؛ لأنَّه نفل يضرُّ بالفرض، وفي الجعفريَّات عن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن قال: وهذا نصٌّ في منع الدَّين الزَّكاة، والشَّيخ في الخلاف ما تمسَّك على عدم منع الدَّين إلاَّ بإطلاق الأخبار الموجبة للزَّكاة...»، وهي ظاهرة في كون التَّوقُّف في خصوص التَّأكُّد في زكاة التِّجارة، لا في أصل الحكم.
وممَّا يؤكِّد ذلك: قوله في البيان، في الفصل الثَّاني، في زكاة الغلاَّت الأربع: «لا يمنع الدَّين زكاة الغلاَّت، ولا غيرها، واجبةً كانت أو مندوبةً...».
ثمَّ إنَّه لو فرضنا أنَّ مراده التَّوقُّف في أصل الحكم، فهو في غير محلِّه أصلاً لما عرفت.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا الكفر(1)
(1) المشهور بين الأعلام أنَّ الكفر لا يمنع من وجوب الزَّكاة، وذلك لما ذكرناه في أكثر من مناسبة، من أنَّ الكفَّار مكلَّفون بالفروع كما أنهم مكلّفون بالأصول، وقد عرفت أنَّ المشهور ذهب إلى هذا القول، وهو الصَّحيح عندنا، خلافاً لما عن بعض الأعلام من أنَّ الكفَّار مكلَّفون بالأصول فقط.
وقد ذكرنا الدَّليل على ذلك في محلِّه، والتي منها عموم أدلَّة التَّكاليف، وخصوص جملة مِنَ الآيات الشَّريفة:
منها: قوله تعالى: « وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِين ﴾، حيث علَّل عذاب المشرك بتركه الزَّكاة.
ومنها: قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة Fإِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِين Gفِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُون Hعَنِ الْمُجْرِمِين Iمَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر Jقَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين K وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين L﴾ ]المدثر: 3844[، حيث علَّل عذاب المشركين بتركهم الفروع، كالصَّلاة، وعدم إطعام المسكين المفسَّر بترك الزَّكاة، ومَنْ أراد التَّفصيل فليرجع إلى باب الحجِّ، حيث ذكرنا هناك أنَّ الكافر مخاطب بالفروع، كمخاطبته بالأصول، فالأحكام الشَّرعيَّة عامَّة لجميع المكلَّفين، فيستحقُّ الكافر العقاب على تركه الواجبات، وفِعْله للمحرَّمات زائداً على استحقاقه العقاب على أصل الكفر.
نعم، لا تصحُّ منه حال الكفر؛ لكون الإيمان شرطاً في صحَّة العبادات، كما ذكرنا في أكثر من مناسبة.
ثمَّ يبقى هنا إشكال معروف عند الأعلام، وحاصله: أنَّه كيف يكلَّف الكافر بالزَّكاة، وهو لا يتمكَّن من أدائها، لا في حال الكفر، ولا في حال الإسلام.
أمَّا عدم تمكُّنه من أدائها حال الكفر؛ فلما عرفت من أنَّ العبادة مشروطة بالولاية.
وأمَّا أنَّه لا يتمكَّن من أدائها لو أسلم، فلما سيأتي إن شاء الله تعالى من سقوط الزَّكاة بالإسلام.
والجواب عن هذا الإشكال: أنَّه كان متمكِّناً مِنَ الزَّكاة بإسلامه قبل أوان تعلُّق الزَّكاة، فيكلَّف كلُّ شخص من أوَّل بلوغه بأن يُسلِم ويؤدِّي زكاة أمواله، وأن يأتي بالفرائض اليوميَّة في أوقاتها، فإذا لم يفعل ذلك فيكون قد فوَّت على نفسه هذه التَّكاليف بسوء اختيار؛ لأنَّه لم يُسلمِ من أوَّل البلوغ.
وعليه، فلا مانع من مؤاخذته على مخالفة التَّكليف؛ لأنَّه بسوء اختياره لم يقدر عليه حين الكفر، ومِنَ المعلوم أنَّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً، وينافيه خطاباً.
وبالجملة، فإنَّه، وإنِ امتنع توجه التَّكليف إليه فعلاً؛ لعدم إسلامه قبل أوان تعلُّق الزَّكاة، إلاَّ أنَّ مناط الوجوب موجود بالفعل، وتفويته يستلزم العقاب؛ لأنَّ ذلك كان بسوء اختياره، فالمراد من كونه مكلفاً بالزَّكاة حال الكفر هو وجود ملاك الوجوب لا الوجوب الفعلي.
ثمَّ إنَّه لمَّا كان عدم تمكُّنه مِنَ الأداء بسبب اختياره البقاء على الكفر، فيتولَّى حينئذٍ أَخْذ الزَّكاة منه الحاكم الشَّرعي، أو وكيله؛ لأنَّ الحاكم الشَّرعي هو وليُّ الفقراء، ومجرد عدم صحَّة الأداء من الكافر لا يوجب تعذُّر استيفاء حقوق النَّاس منه كما في المسلم الممتنع عَنِ الأداء، فإنَّ الحاكم الشَّرعي يأخذها منه قهراً، بعد أن يعيِّنها في مال خاصٍّ؛ لأنَّ التَّعيين، وإن كان حقّاً للمالك، إلاَّ أنَّه بامتناعه يكون الحاكم وليَّه في التَّعيين، بل يجوز للحاكم الشَّرعي أن يقاصص الممتنع عَنِ الأداء، بأنْ يأخذ من جنس آخر بقَدْر ماليَّة الزَّكاة، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: نعم، لو أسلم استأنف الحَوْل(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّه إذا أسلم تسقط عنه الزَّكاة، وفي مفتاح الكرامة : «ما وجدنا من خالف أو توقَّف قبل صاحب المدارك وصاحب الذَّخيرة...»، وفي المدارك: «وقد نصَّ المصنِّف في المعتبر، والعلاَّمة في جملة من كتبه، على أنَّ الزَّكاة تسقط عَنِ الكافر بالإسلام، وإن كان النِّصاب موجوداً، لقوله (عليه السلام): «الإسلام يجبُّ ما قبله»، ويجب التَّوقُّف في هذا الحكم، لضعف الرِّواية المتضمِّنة للسقوط سنداً ومتناً، ولما رُوِي في عدَّة أخبار صحيحة من أنَّ المخالِف إذا استبصر لا يجب عليه إعادة شيء مِنَ العبادات التي أوقعها في حال ضلالته سوى الزَّكاة، فإنَّه لا بدَّ أنْ يؤدِّيَها، ومع ثبوت هذا الفرق في المخالف، فيمكن إجراؤه في الكافر؛ وبالجملة، فالوجوب على الكافر متحقِّق فيجب بقاؤه تحت العُهْدة إلى أن يحصل الامتثال أو يقوم على السُّقوط بالإسلام دليل يعتدُّ به...».
أقول: ما ذهب إليه المشهور مِنَ السُّقوط هو الصَّحيح؛ لأنَّ حديث «الإسلام يجبُّ ما قبله»([1])، وإنْ روي بطرق كثيرة كلّها ضعيفة بالإرسال وغيره، إلاَّ أنَّ النَّفس تطمئنُّ بصدوره، ومَعَ الاطمئنان كذلك يصبح حجَّة، فيجب العمل به، ومن أنكره بلسانه التزم به عملاً.
ومن هنا، قد يقطع بهذا الحكم بملاحظة أنَّنا لم نجد مورداً واحداً أمر النَّبيُّ (ص) أحداً مِنَ النَّاس بقضاء ما كان ثابتاً حال كفرهم، كما لا يخفى على المتتبع، بل ولا بعده (ص) في زمن الأئمَّة (عليهم السلام).
وبالجملة، فلم نعهد أنَّ النَّبيَّ (ص) أمر أحداً ممَّنْ تجدَّد إسلامه من أهل البادية وغيرهم بزكاة إبلهم في السِّنين الماضية، بل ربَّما كان ذلك منفِّراً لهم عن الإسلام، كما أنَّه لو كان شيء منه لذاع وشاع، كيف والشَّايع عند الخواصِّ، فضلاً عَنِ العوام، خلافه.
([1]) راجع ما ذكرناه في كتاب الحج من كتاب مالك النفوس إلى مدارك الدروس، المجلد الأوَّل: ص205 و206.
|