(1) قال المصنّف R في الذكرى: «يستحبّ الدنوّ من السّترة، لِما رُوي عن النبي C إذا صلّى أحدكم إلى سترة فَلْيدن منها لا يقطع الشّيطان صلاته[i]f682، وقدّره ابن الجنيد R بمربض الشّاة، لِما صحّ من خبر سهل بن سعد السّاعدي قال: كان بين مصلّى النبي C وبين الجدار ممر الشّاة[ii]f683، وبعض العامّة بثلاثة أذرع».
ويؤيِّد ما ذكره المصنّف R: ما رواه في كتاب دعائم الإسلام عن النبي C قال: إذا قام أحدكم في الصّلاة إلى سترة، فَلْيدنُ منها، فإنّ الشّيطان يمرّ بينه وبينها، وحد في ذلك كمَرْبض الثّور»[iii]f684.
والإنصاف: أنّ هذه الرّوايات الثلاث كلّها ضعيفة السّند.
أمّا الأوليان اللتان ذكرهما المصنّف R في الذكرى فأمرهما واضح.
وأمّا رواية دعائم الإسلام: فبالإرسال.
ويفهم من كلام صاحب المدارك R أنّه لا دليل على استحباب الدنو، حيث قال: «ويستحبّ الدنو من السّترة بمربض عنز إلى مربض فرس، قاله الأصحاب».
أقول: قد يستدلّ للقول بالاستحباب بصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله N «قال: أقلّ ما يكون بينك وبين القبلة مربض عنز، وأكثر ما يكون مربط فرس»[iv]f685.
(1) قال المصنِّف R في الذكرى: «يستحبّ دفع المارّ بين يديه، لقوله C: لا يقطع الصّلاة شيء، فادرأوا ما استطعتم...».
أقول: قد استدلّ لذلك بجملة من الرّوايات:
منها: حسنة الحلبي عن أبي عبد الله N «قال: سألتُه عن الرّجل أيقطع صلاته شيء ممّا يمرّ بين يديه؟ فقال: لا يقطع صلاة المسلم شيء، ولكن ادرأ ما استطعت»[v]f686.
ومنها: موثّقة ابن أبي يعفور «قال: سألتُ أبا عبد الله N عن الرجل، هل يقطع صلاته شيء ممّا يمرّ بين يديه؟ فقال: لا يقطع صلاة المؤمن شيء، ولكن ادرأوا ما استطعتم»[vi]f687.
ومنها: موثّقة الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه «أنّ عليّاً N سُئِل عن الرّجل يصلّي، فيمرّ بين يديه الرّجل والمرأة والكلب والحمار، فقال: إنّ الصّلاة لا يقطعها شيء، ولكن ادرأوا ما استطعتم، هي أعظم من ذلك»[vii]f688.
وقد فهم المصنّف R هنا، وفي الذكرى: من هذه النصوص استحباب دفع المار برمي شيء أو دفعه باليد، ونحو ذلك، مضافاً إلى استحباب السّترة، وكذا فهم غيره من الأعلام.
ولكن قال صاحب الحدائق R: «والظاهر عندي إنّما هو الدفع بجعل السّترة، فهو كناية عن الأمر بالسّترة، بمعنى ادفعوا ضرر مروره بالاستتار بالسّترة، فإنها متى وضعت لم يمرّ بينها وبين المصلّي...».
ووافقه صاحب الجواهر R، حيث قال في جملة من كلامه: «قلتُ: يمكن أن يُقال: إنّ المراد بالإدراء الكناية عن التستّر الذي هو المدافعة بالتي هي أحسن، ضرورة ظهور النصوص، بل صراحتها، كما اعترف هو في أنّه مع السّترة لا يضرّه بعد مرور المارّ، لكونه مستوراً ولو شرعاً، كالتستّر بالعنزة، ونحوها إلى أن قال: بل قد يؤيّد ذلك أنّ مرور المارّ إنّما هو في أرضٍ مباحة، ونحوها، ممّا يجوز له المرور فيه، فلا يستحقّ الدفع والرمي بالحجر، ونحوهما من أنواع الأذى المشهورة بين العامة العمياء، حتى أنّه يحصل منهم بذلك بعض الأقوال المشابهة لأحوال الكلاب والخنازير عند مزاحمتها...».
والإنصاف: أنّ ما ذكره صاحب الجواهر R وفاقاً لصاحب الحدائق R، وإن كان مستحسناً، إلاّ أنّه خلاف ظاهر الروايات، فما فهمه المصنّف R هو الأقرب.
ومهما يكن، فلا يعارض هذه الأخبار خبر ابن أبي عمير المروي في كتاب التوحيد: «قال: رأى سفيان الثوري أبا الحسن موسى بن جعفر J وهو غلام يصلّي، والنّاس يمّرون بين يديه، فقال له: إنّ النّاس يمرّون بين يديك وهم في الطواف! فقال له: الذي أصلّي له أقرب من هؤلاء»[viii]f689.
ومرفوعة عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن مسلم «قَالَ: دَخَلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله N فَقَالَ لَه: رَأَيْتُ ابْنَكَ مُوسَى N يُصَلِّي والنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْه، فَلَا يَنْهَاهُمْ، وفِيه مَا فِيه! فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله N: ادْعُوا لِي مُوسَى، فَدُعِيَ، فَقَالَ (لَه): يَا بُنَيَّ! إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَذْكُرُ أَنَّكَ كُنْتَ (صلّيت) تُصَلِّي والنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَلَمْ تَنْهَهُمْ، فَقَالَ: نَعَمْ يَا أبه (أبتَ)! إِنَّ الَّذِي كُنْتُ أُصَلِّي لَه كَانَ أَقْرَبَ إِلَيَّ مِنْهُمْ، يَقُولُ الله عَزَّ وجَلَّ: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد ﴾ ]ق: 16[، قَالَ: فَضَمَّه أَبُو عَبْدِ الله N إِلَى نَفْسِه، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ! بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا (مستودع) مُودَعَ الأَسْرَارِ»[ix]f690.
وخبر سفيان بن خالد عن أبي عبد الله N «أنّه كان يصلّي ذات يوم إذ مرّ رجل قِدامه وابنه موسى جالس فلمّا انصرف قال له ابنه: يا أبه! ما رأيت الرّجل مرّ قِدّامك؟ فقال: يا بنيّ! إنّ الذي أُصلّي له أقرب إليّ من الذي مرّ قِدّامي»[x]f691.
وخبر ضيف (سيف. منيف. خ ل) (مولى جعفر بن محمد N) عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه S قال «كان الحسين بن علي N يصلّي فمرّ بين يديه رجل فنهاه بعض جلسائه، فلمّا انصرف من صلاته قال له: لمَ نهيت الرّجل؟! فقال: يا ابن رسول الله C خطر فيما بينك وبين المحراب! فقال: ويحك! إنّ الله عز وجلّ أقرب إليّ من أنْ يخطر فيما بيني وبين (بينه خ ل) أحد»[xi]f692.
وفيه أوّلاً: أنّ هذه الأخبار كلها ضعيفة السّند إلاّ الرّواية الأُولى، فإنها حسنة، وأمّا الرّواية الثانية فضعيفة بالرفع، والثالثة بسفيان بن خالد، فإنّه مجهول، والرّابعة بجهالة أكثر من شخص.
وثانياً: أنّها حكاية فِعْل لا تصلح معارضة للقول، وما فيها من التعليل أُريد منه بحسب الظّاهر دفع توهّم كون المرور قاطعاً للصّلاة، فكأنّهم كانوا يتوهّمون أنّ الصّلاة تذهب بحيال صاحبها إلى القبلة، فيكون المرور موجباً لانقطاع بعضها عن بعض، فأبطل الإمام N هذا الوهم بقوله N: «إنّ الذي أُصلّي له أقرب إلي من هؤلاء».
وثالثاً: يحتمل ورود جميعها كالخبر الأوّل في مكّة المعظمة التي اغتفر فيها هذا الحكم لمكان الضّرورة، كما يشهد بذلك صحيحة معاوية بن عمار «قال: قلتُ لأبي عبد الله N: أقوم أصلّي بمكّة والمرأة بين يدي جالسة، أو مارّة، فقال: لا بأس، إنّما سمّيت بكّة، لأنّه يبكّ فيها الرّجال والنّساء»[xii]f693.
ثمّ لا يخفى عليك أنّ المقصود بالدفع الذي حكمنا باستحبابه إنّما هو ما لا يترتب عليه مفسدة من ظلم، أو إيذاء مؤمن، ونحوه، ضرورة أنّ المستحبّ لا يعارض الحرام.
[i] الوسائل باب 28 من أبواب أحكام المساجد ح1.
[ii] الوسائل باب 27 من أبواب أحكام المساجد ح14.
(1 3) الوسائل باب 27 من أبواب أحكام المساجد ح143.
(4) الوسائل باب 27 من أبواب أحكام المساجد ح5.
[iii] الوسائل باب 26 من أبواب أحكام المساجد ح4.
[iv] الوسائل باب 26 من أبواب أحكام المساجد ح1.
[v] الوسائل باب 26 من أبواب أحكام المساجد ح2.
[vi] الوسائل باب 26 من أبواب أحكام المساجد ح3.
[vii] الوسائل باب 20 من أبواب أحكام المساجد ح3.
[viii] الوسائل باب 20 من أبواب أحكام المساجد ح5.
[x] الوسائل باب 20 من أبواب أحكام المساجد ح1.
[xi] الوسائل باب 20 من أبواب أحكام المساجد ح2.
[xii] الوسائل باب 44 من أبواب مكان المصلّي ح4.
|