(1) هذا هو المعروف بين الأعلام.
وتدلّ عليه: مرسلة عبد الله بن الفضل المتقدّمة، حيث ورد فيها: «ومجرى الماء»، ولكنّك عرفت أنّها ضعيفة.
وقد يستدلّ أيضاً بخبر المناهي: «ونهى أنْ يُصلّي الرّجل في المقابر والطرق والأرحية(*)، والأودية...»[i]f635، وقد عرفت سابقاً أنّه ضعيف جدّاً.
والأودية: جمع واد، وهو على ما في مجمع البحرين: «الموضع الذي يسيل منه الماء بكثرة»، وقد يظهر من رواية أبي هاشم الجعفري صدق الصّلاة في الوادي مع كونه في سفينةً، ونحوها «قال: كنتُ مع أبي الحسن N في السّفينة في دجلة، فحضرت الصّلاة، فقلت: جُعلتُ فداك! نصلّي في جماعةٍ، قال: فقال: لا يُصلّى في بطنِ وادٍ جماعةً»[ii]f636، ولكنّها ضعيفة بسهل بن زياد.
وأمّا أبو هاشم الجعفري: فقد عرَّفه النجاشي R بقوله: «داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أبو هاشم الجعفري R كان عظيم المنزلة عند الأئمة عليهم السلام، شريف القدر ثقة، روى أبوه عن أبي عبد الله N».
أقول: يحتمل أن تكون الصّلاة في الأودية بناءً على ثبوت الكراهة في حدّ ذاتها مكروهاً مستقلاًّ، لا من حيث كونها مجرى الماء الكثير، أي المسيل، فإنّهما على ما يظهر من كلام البعض مفهومان متباينان، قد يتصادقان في بعض الموارد.
(1) بفتح الباء واحدة: السّباخ، وهو ما يعلوها، كالملح، وإذا كانت نعتاً للأرض، كقولك: الأرض السبخة، فهي بكسر الباء، كذا نقل عن الخليل في كتاب العين.
ومهما يكن، فالمشهور بين الأعلام الكراهة.
ويدلّ على الحكم المذكور جملة من الأخبار بلغت حدّ الاستفاضة:
منها: مرسلة عبد الله بن الفضل المتقدّمة.
ومنها: رواية عبد الله بن عطا المتقدّمة أيضاً، والتي رواها العياشي R أيضاً، وقد عرفت أنّ هذه الرّوايات كلّها ضِعاف.
ومنها: صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله N «قال: سألتُه عن الصّلاة في السّبخة لِمَ تَكْرهه؟ قال: لأنّ الجبهة لا تقع مستوية، فقلت: إن كان فيها أرض مستوية، فقال: لا بأس»[iii]f637.
ومنها: رواية معلّى بن خنيس «قال: سألتُ أبا عبد الله N عن السّبخة أيصلّي الرّجل فيها؟ فقال: إنّما تكره الصّلاة فيها من أجل أنها (فَتّك) لا يستمكن الرّجل يضع وجهه كما يريد، قلت: أرأيت إنْ هو وضع وجهه متمكّناً؟ فقال: حسن»[iv]f638، وهي ضعيفة بالمعلّى بن خُنيس.
ومنها: صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه «قال: سألتُه عن الصّلاة في الأرض السّبخة أيصلّى فيها؟ قال: لا، إلاّ أن يكون فيها نبت، إلاّ أن يخاف فوت الصّلاة، فيصلّي»[v]f639.
ومنها: صحيحة معمّر بن خلاّد عن أبي الحسن N في حديث «قال: لا تسجد في السّبخة»[vi]f640.
ومنها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله N في حديث «قال: كرِه الصّلاة في السّبخة، إلاّ أن يكون مكاناً لَيّناً تقع عليه الجبهة مستويةً»[vii]f641.
ومنها: موثّقة داود بن الحُصَين بن السّري «قال: قلت لأبي عبد الله N لِمَ حرّم الله الصلاة في السّبخة؟ قال: لأنّ الجبهة لا تتمكّن عليها»[viii]f642، وكذا غيرها من الرّوايات.
ثمّ لا يخفى عليك أن مقتضى كثيرٍ من الأخبار المتقدّمة اختصاص المنع بما إذا لم يتمكّن من وضع الجبهة على الأرض، فتحرم الصّلاة فيها حينئذٍ، لأنّه لا يتمكّن من وضعها على الأرض مستقرّة، بحيث يتحقّق به أقلّ ما يجزئ في السُّجود.
ولكنّ حمل تلك الأخبار على الحرمة لعدم تمكّنه من وضع الجبهة على الأرض مستقرّةً في غاية البعد، بل ينبغي الجزم بخلافه، إذ لا تكاد تُوجد أرض لا يتمكّن المصلّي من أن يضع جبهته عليها، على وجهٍ يحصل به مسمَّى الوضع المعتبر في السُّجود، ولو بتعديلِ موضعِ سجودِه قبل أن يسْجد عليها، فكيف يجوز حينئذٍ إطلاق المنع عنها في بعض تلك الأخبار؟!.
وتعليلها في الأخبار بهذه العلّة غير المطّردة، بل نادرة التحقّق، إنْ أُريد بها ما ذكِر من عدم التمكّن من وضعها، على وجه يتحقّق معه صدق مسمى الوضع فالمقصود بالتعليل الواقع في الأخبار بحسب الظاهر بيان حكمة الحكم الموجب رفعها لخفّة الكراهة، أو رفعها من أساسها، وهي عدم استواء الأرض وخشونتها، المانعة عن التمكّن التامّ من وضع جبهته على حسب إرادته على الوجه الكامل.
وممّا يشهد بأنّ المراد من الأخبار الناهية عن الصّلاة في الأرض السبخة ليس إلاّ الكراهة موثّقة سماعة النافية للبأس عنه «قال: سألتُه عن الصّلاة في السّباخ، فقال: لا بأس»[ix]f643.
وقد عرفت أنّ مضمرات سماعة مقبولة، وهذه الموثّقة لا تنافي القول بالكراهة، لأنّ نفي البأس محمول على بيان الرخصة غير المنافي للكراهة، والله العالم.
(1) المعروف بين الأعلام كراهة الصّلاة في أرض الثّلْج، بمعنى أن تكون الصّلاة على الثّلْج مع كون السُّجود على شيءٍ آخر يصحّ السُّجود عليه.
وقدِ استُدلّ للحكم المذكور بعدّة رواياتٍ:
منها: مرسلة عبد الله بن الفضل المتقدّمة، وقد عرفت أنّها ضعيفة بالإرسال.
ومنها: موثّقة عمّار في حديث «قال: سألتُ أبا عبد الله N عن الرّجل يصلّي على الثَّلْج، قال: لا، فإن لم يقدر على الأرض بسط ثوبه، وصلّى عليه»[x]f644.
ومنها: ما في مشكاة الأنوار للطبرسي R عن أبي عبد الله N «قال: إنّ رجلاً أتى أبا جعفر N، فقال له: أصلحك الله! إنّا نتِّجر إلى هذه الجِبال، فنأتي أمكنة لا نستطيع أن نصلّي إلاّ على الثّلْج، قال: ألَا تكون مثل فلان يعني رجلاً عنده يرضى بالدون، ولا يطلق التجارة إلى أرض لا يستطيع أن يصلّي إلاّ على الثّلْج»[xi]f645، ولكنّها ضعيفة بالإرسال.
ثمّ إنّه قد يُقال: إنّ الظّاهر أنّ النهي عن الصّلاة على الثّلْج في تلك الأخبار محمول على التحريم، لأنّ الثّلْج ليس بأرضٍ حتّى يجوز السُّجود عليه مع وجود الأرض، وتكون موثّقة عمّار دالّة على أنّ السُّجود على الثوب عند تعذّر الأرض مقدّم على السُّجود على الثّلْج.
وقد يؤيِّد حمل تلك الأخبار على التحريم حيث لا يصحّ السُّجود على الثّلْج اختياراً بعض الروايات:
منها: صحيحة معمّر بن خلاد «قال: سألت أبا الحسن N عن السُّجود على ثَلْج، فقال: لا تسْجد في السّبخة، ولا على الثَّلْج»[xii]f646.
ومنها: رواية داود الصرمي «قال: سألتُ أبا الحسن N، قلت: إنّي أخرج في هذه الوجه، ربّما لم يكن موضع أصلّي فيه من الثّلْج، قال: إن أمكنك أن لا تسجد على الثّلْج فلا تسجد عليه، وإن لم يمكنك فسوِّه واسجد عليه»[xiii]f647، ولكنّها ضعيفة، لعدم وثاقة داود الصرمي.
ومنها: معتبرة منصور بن حازم عن غير واحدٍ من أصحابنا «قال: قلتُ لأبي جعفر N: إنّا نكون بأرضٍ باردةٍ يكون فيها الثّلْج، أفنسجد عليه؟ قال: لا، ولكن اجعل بينك وبينه شيئا، قطناً، أو كتاناً»[xiv]f648.
لا يقال: إنّ الرّواية ضعيفة بالإرسال.
فإنّه يُقال: إنّ هذا الإرسال غير مضرٍّ بصحّة الرّواية، لأنّنا نطمئنّ بوجود الثقة في قوله: «غير واحد من أصحابنا».
ولكنّ الإنصاف: أنّ الرّوايات الناهية عن الصّلاة على الثَّلْج محمولة على الكراهة، ويكون السُّجود على شيءٍ يصحّ السُّجود عليه، بل لعلّك لا تجد مَنْ يقول بالحرمة، إذ لو كان المانع من الصّلاة على الثَّلْج منحصراً في أنّ الثَّلْج ممَّا لا يصحّ السّجود عليه لم يكن ذلك مقتضياً للنهي عن طلب التّجارة في تلك الأراضي، بل كان مقتضياً لأن يأمره بأن يتّخذ معه شيئاً ممّا يصحّ السّجود عليه من تربةٍ أو حجارةٍ، ونحوها، فلعل حكمة الحكم بالكراهة عدم التمكّن من كمال الاستقرار، أو عدم حصول التوجّه والإقبال لما يجده من ألم البرد.
وأمَّا الأخبار الناهية عن السّجود على الثَّلْج فيُحمل النهي فيها عن الصلاة على الثَّلْج فيكون إطلاق السّجود عليها من قبيل إطلاق الرقبة على الإنسان.
ولا بأس بهذا الحكم إلاَّ من حيث التجوَّز بإطلاق السّجود على الصّلاة ونظائره في الأخبار كثيرة، لا سيّما أخبار «جعلتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً»، أي مصلّى وغيرها، والله العالم.
[i] المستدرك باب 7 من أبواب مكان المصلّي ح1.
[ii] الوسائل باب 12 من أبواب مكان المصلّي ح4.
[iii] صحيح البخاري: ج1 / 101.
[iv] صحيح مسلم: ج1:360 ح503، صحيح البخاري 1:133.
[v] الوسائل باب 11 من أبواب مكان المصلّي ح7.
[vi] الوسائل باب 68 من أبواب أحكام المساجد ح2.
[vii] الوسائل باب 3 من أبواب أحكام المساجد ح2.
[viii] الوسائل باب 3 من أبواب أحكام المساجد ح6.
[ix] الوسائل باب 57 من أبواب أحكام المساجد ح6.
[x] الوسائل باب 57 من أبواب أحكام المساجد ح5.
[xi] الوسائل باب 57 من أبواب أحكام المساجد ح2.
[xii] الوسائل باب 57 من أبواب أحكام المساجد ح3.
[xiii] الوسائل باب 57 من أبواب أحكام المساجد ح4.
[xiv] الوسائل باب 52 من أبواب أحكام المساجد ح5.
|