ومنها: موثقة الفُضيل عن أبي جعفر N «قال: إنّما سميت بكّة لأنّه (يبتكّ) تبكّ فيها الرجال والنساء، والمرأة تصلّي بين يديك، وعن يمينك، وعن يسارك، ومعك، ولا بأس بذلك، وإنّما يُكره في سائر البلدان»[i]f516، وهذه الصحيحة نصّ في المطلوب، بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ الكراهة، أو الحقيقة المتشرعيّة في زمن الباقر N، وإلاّ فلا ريب في ظهورها في ذلك.
على أنّه يمكن الاستدلال بالنصّ فيها على رفع المنع عن ذلك في مكّة كمتمم لرفع المنع في غيرها من سائر البلدان بناءً على عدم القول بالفصل.
نعم، يبقى الفرق بين مكّة وغيرها في عدم الكراهة في مكّة وثبوتها في غيرها من البلدان.
وقدِ استدلّ أيضاً بعدّة أخبار اشتركت في الدّلالة على عدم اعتبار الحائل، أو التباعد عشرة أذرع، وإذا انتفى ذلك ثبت الجواز مطلقاً، إذ لا قائل بالفصل.
وبالجملة، فهذه الأخبار التي سنذكرها نفت البأس فيما إذا كان بينه وبينها ذراع أو ستر أو قدر ما لا يتخطى، إذ لا يلتزم القائلون بالمنع بكفاية هذا المقدار من الفصل، فلا بدّ إمّا من طرح هذه الأخبار الكثيرة، أو الالتزام بكون الحكم على سبيل الكراهة التي لا ينافيها اختلاف التحديدات الواقعة في الأخبار:
فمنها: صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله N «أنّه سأله عن الرجل والمرأة يصلّيان في بيتٍ واحدٍ، قال: إذا كان بينهما قدر شبر صلّت بحذاه وحدها وهو حدّه، ولا بأس»[ii]f517، وفي طريق الشيخ الصّدوق R إلى معاوية بن وهب محمّد بن علي بن ماجيلويه، ولكنّه من المعاريف، ما يكشف عن وثاقته.
ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر N «قال: إذا كان بينها وبينه ما لا يتخطّى، أو قدر عظم الذراع فصاعداً، فلا بأس»[iii]f518.
ومنها: معتبرة أبي بصير ليث المرادي «قال: سألته عن الرجل والمرأة يصلّيان في بيت واحد المرأة عن يمين الرجل بحذاه، قال: لا، إلا أن يكون بينهما شبر أو ذراع»[iv]f519، والرّواية معتبرة، لأنّ الحسن بن زياد الصيقل الموجود في السند من المعاريف، ما يكشف عن وثاقته.
ومنها: روايته الأخرى حيث ورد في ذيلها «لا حتى يكون بينهما شبر أو ذراع أو نحوه»[v]f520، ولكنّها ضعيفة بمحمّد بن سنان.
ومنها: حسنة حريز عن أبي عبد الله N «في المرأة تصلّي إلى جنب الرّجل قريباً منه، فقال: إذا كان بينهما موضع رجل (رحل) فلا بأس»[vi]f521، ونحوها رواية زرارة عن أبي جعفر N «قال: قلت له: المرأة والرّجل يصلّي كلّ واحد منهما قِبالة صاحبه؟ قال: نعم، إذا كان بينهما قدر موضع رحل»[vii]f522، ولكنّها ضعيفة بالإرسال، لأنّ ابن إدريس R لم يذكر طريقه إلى كتاب حريز، وموضع الرّجل أو الرّحل هو ما يجعل على البعير كالسّرج للفرس، وهو يقرب من الذراع.
ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما J «قال: سألته عن الرّجل يصلّي في زواية الحجرة وامرأته، أو ابنته تصل بحذاه في الزاوية الأخرى، قال: لا ينبغي ذلك، فإن كان بينهما شبر أجزأه، يعني إذا كان الرّجل متقدماً للمرأة بشبر»[viii]f523.
وقوله: «يعني إذا كان...» يحتمل أن تكون من كلام الشيخ R، ويحتمل أن يكون من الرّاوي، ورواها الكليني R إلى قوله: «أجزأه»، وفي بعض نسخ الكليني R بدل (الشبر) السّتر بالسين المهملة والتاء المثناة من فوق، «فإن كان بينهما ستر أجزأه»، وعلى أي حال فهي بطريق الكليني ضعيفة بسهل بن زياد.
وذكر جماعة من الأعلام أنّ الاستدلال على الجواز مبني على نسخة التهذيب، أي إذا كان بينهما شبر، وأمَّا على نسخة الكافي فتدلّ على عكس المطلوب، أي تدلّ على التحريم إذا لم يكن بينهما حائل، ولكن لا يخفى عليك أنّها تدلّ على الجواز سواءً على نسخة التهذيب أم الكافي، وذلك لأنّ «لا ينبغي» ظاهرة في الكراهة.
نعم، هناك خلل في المتن بناءً على نسخة التهذيب، وهو أنّه يستبعد جدّاً كون الفاصلة بين زاويتي الحجرة بمقدار الشّبر، وأمّا ما ذكره صاحب الجواهر R من أنّه «يكفي في حُسْنه كون بعض البيوت في غاية الضيق» في غير محلّه، كما لا يخفى.
ومن هنا يحتمل قويّاً كون نسخة الكافي أضبط، أي السّتر بدل الشّبر، لكنّك عرفت أنّ رواية الكافي ضعيفة السند.
ويؤيِّد نسخة الكافي ما رواه ابن إدريس R في مستطرفات السّرائر من نوادر البزنطي عن المفضّل عن محمّد الحلبي حيث ورد في الذيل «قال: لا ينبغي ذلك إلاّ أن يكون بينهما ستر، فإن كان بينهما ستر أجزأه»[ix]f524، ولكنّها ضعيفة بالمفضل بن صالح، وبالإرسال، لعدم ذكر ابن إدريس R طريقه إلى نوادر البزنطي.
[i] الوسائل باب 5 من أبواب مكان المصلي ح3.
(*) الكوّة: تفتح، وتضم: الثقبة في الحائط، وجمع المفتوح على لفظة كوات، مثل حبة وحبات، وجمع المضموم كوى بالضم والقصر، مثل مُدية ومدًى.
(2 3) الوسائل باب 8 من أبواب مكان المصلي ح14.
[ii] الوسائل باب 5 من أبواب مكان المصلي ح11.
[iii] الوسائل باب 5 من أبواب مكان المصلي ح12.
[iv] الوسائل باب 6 من أبواب مكان المصلي ح2.
[v] الوسائل باب 6 من أبواب مكان المصلي ح3.
[vi] الوسائل باب 6 من أبواب مكان المصلي ح5.
[vii] الوسائل باب 6 من أبواب مكان المصلي ح4.
[viii] الوسائل باب 8 من أبواب مكان المصلي ح2.
[ix] الوسائل باب 8 من أبواب مكان المصلي ح3.
|