بقي الكلام في تحديد موضوع المعدِن، فقدِ اختلفت كلمة اللُّغويِّين في تحديده، كما اختلفت كلمة الفُقهاء في ذلك.
أمَّا أهل اللُّغة، فقدِ اتَّفقت كلمتهم على أنَّ المعدِن اسم مكان، أي أنَّه اسم للمحلّ.
وأمَّا الفُقهاء، فقدِ اتَّفقت كلمتهم على أنَّه اسم للحالّ.
وَلْنبدأ بأقوال أهل اللُّغة.
ففي القاموس: (المعدِن كــــ (مجلس) : منبتُ الجواهر من
ذهب ونحوه؛ لإقامة أهله فيه دائماً، أو لإنبات اﷲ تعالى إياه فيه، ومكان كلِّ شيءٍ فيه أصله)([1]).
وفي الصِّحاح: (عَدَنتُ البلد: توطَّنته، وعَدَنتِ الإبل بمكان كذا: لزمته فلم تبرح، ومنه جنَّات عدنٍ أي جنَّات إقامةٍ، ومنه سُمِّي المعدِن بكسر الدَّال لأنَّ النَّاس يُقيمون فيه الصيف والشتاء، ومركز كلّ شيءٍ: معدنه)([2]).
وفي النِّهاية الأثيريّة: (المعادن: المواضع الَّتي يُستخرج منها جواهر الأرض، كالذَّهب والفِضَّة والنُّحاس، وغير ذلك، واحدها: المعدِن، والعَدْن: الإقامة، والمعدِن: مركز كلّ شيء...)([3])، إلى غير ذلك من كلماتهم.
وقدِ اتّفقت كلمتهم على أنَّ المعدِن اسم للمحلّ لا للحالّ، كما أنَّها اتّفقت على أنَّ المعدِن له معنيان:
خاصٌّ: وهو المكان الَّذي يُستخرج منه جواهر الأرض.
وعامٌّ: وهو مركز كلّ شيءٍ، أي مكانه الَّذي خُلق فيه بالطَّبع.
ومتى أُطلق المعدِن من غير إضافته إلى شيءٍ يُراد به معناه الخاصّ.
وأمَّا الفقهاء، فظاهرهم الاتِّفاق على أنَّه اسم للحالّ لا للمحلّ،
حيث عرّفوه: بما استُخرج من الأرض، وقد اختلفوا من حيث التَّعميم والتَّخصيص.
هذا، وَلْنذكر بعض أقوال الأعلام في المقام:
قال الشَّهيد الثَّاني (رحمه اﷲ) في المسالك: (المعادن: جمع معدِن بكسر الدَّالّ ، وهو هنا كلّ ما استُخرج من الأرض ممَّا كان منها، بحيث يشتمل على خصوصيّة يعظم الانتفاع بها، ومنها: المِلح والجَصّ وطين الغَسْل وحجارة الرَّحى والمغْرَة([4])، واشتقاقها من عدن بالمكان، إذا أقام به، لإقامتها في الأرض)([5]).
وقال العلاَّمة (رحمه اﷲ) في التَّذكرة: (المعادن: وهي كلّ ما خرج من الأرض ممَّا يخلق فيها من غيرها ممَّا له قيمة، سواء كان منطبعاً بانفراده، كالرَّصاص والصُّفر والنَّحاس والحديد، أو مع غيره كالزَّيبق، أو لم يكن منطبعاً، كالياقوت والفيروزج والبَلَخْش([6]) والعقيق والبلَّور والسَّبْج([7]) والكُحل والزَّاج والزِّرنيخ والمغْرة والمِلح، أو كان مائعاً، كالقِير والنَّفْط والكِبريت، عند علمائنا أجمع)([8]).
وأمَّا المصنِّف (رحمه اﷲ) هنا أي في الدروس فلم يُفسِّر المعدِن، ولكن صرَّح بأنَّ منها: (المَغْرة والجصّ والنَّورة وطِين الغسْل والعلاج، وحجارة الرَّحى)، وكذا غيرهم من الأعلام.
وقد عرفت أنَّ اللُّغويِّين فسَّروا المعدِن بأنَّه اسم للمحلّ، والفقهاء فسَّروا بأنَّه اسم للحالّ، ولعلَّ منشأ تفسيرهم بذلك هو أنَّ غرضهم لم يتعلَّق إلاَّ ببيان ما تعلَّق به الحكم الشَّرعيّ، وهو ما استُخرج من المعدِن، لا نفسه، فسمّوه معدناً تسميةً للحالّ باسم المحلّ.
وعليه، فاختلافهم في مثل حجر الرَّحى وطين الغَسْل والمغْرة والجصّ ونحوها، نشأ من الخلاف في صدق اسم (المعدِن) عرفاً على مركز مثل هذه الأشياء.
ثمَّ إنَّ الإنصاف: أنَّه لا يُعتبر خروج اسم (المعدِن) عن صِدق مسمَّى الأرض، كما يظهر من بعض الأعلام، حيث يظهر منهم اعتبار خروج اسمه عن صدق مسمَّى الأرض، بل قد يخرج عن صدق مسمَّى الأرض، كالذَّهب والفضَّة ونحوهما، فإنَّه لا يصدق عليها اسم (الأرض)، فهي وإن كانت معدناً ولكن لا تُسمَّى أرضاً، وقد لا يخرج عن اسم (الأرض)، كالعقيق والفيروزج والياقوت ونحوها من الأحجار الكريمة، فإنَّها وإن صدق عليها اسم (المعدِن) إلاَّ أنَّه يصدق عليها أيضاً اسم (الأرض).
ومن هنا جاز السُّجود عليها؛ لكونها أرضاً وإن صدق عليها اسم (المعدِن).
والنَّتيجة في نهاية المطاف: أنَّه كلَّما صدق على الشَّيء اسم (المعدِن) عرفاً فيجب فيه الخُمُس، ومع الشَّكّ في صدق اسم (المعدِن) عليه، لا يمكن التّمسُّك بإطلاق الأدلَّة وعمومها؛ لأنَّه تمسُّكٌ بالعامّ في الشُّبهة المصداقيّة.
وعليه، فيُرجع إلى الأصل العمليّ، فنقول: هل يجب الخُمُس في هذا الشَّيء المشكوك صدق المعدنيَّة عليه، من جهة كونه معدناً أو لا يجب؟ ومقتضى أصل البراءة عدم الوجوب من هذه الجهة.
نعم، يدخل في أرباح المكاسب، ويجب خُمُسه إذا زاد على مؤونة السَّنة من غير اعتبار النِّصاب فيه، واﷲ العالم.
* * *
قال الشهيد الاول رحمه الله في الدروس: ونصابه عشرون ديناراً في صحيح البزنطيّ عن الرِّضا (عليه السلام). واعتبر الحلبيّ ديناراً؛ لرواية قاصرة، والأكثر لم يعتبروا نصاباً.
اِختلف الأعلام في اعتبار النِّصاب وعدمه في المعدِن. وعلى تقدير اعتباره، فهل هو قيمة عشرين ديناراً، أو قيمة دينارٍ واحد؟
حُكي عن كثير من الأعلام المتقدِّمين وبعض المتأخِّرين عدم اشتراط النِّصاب، منهم الشَّيخ (رحمه اﷲ) في الخلاف صريحاً، وهو ظاهر المفيد والإسكافي والعمانيّ (رحمهم اﷲ)، ونسبه المصنِّف (رحمه اﷲ) إلى الأكثر، حيث قال: (والأكثر لم يعتبروا نصاباً).
أقول: ومنهم ابن إدريس (رحمه اﷲ) في السرائر، بل ادّعى على ذلك الإجماع حيث قال: في ردِّ قول الشَّيخ (رحمه اﷲ) في المبسوط والنِّهاية
باعتبار النِّصاب : (بل إجماعهم منعقدٌ على وجوب إخراج الخُمُس من المعادن جميعها على اختلاف أجناسها، قليلاً كان المعدِن أو كثيراً، ذهباً كان أو فضَّةً، من غير اعتبار مقدار)([9]).
وبالمقابل، ذهب أكثر المتأخِّرين إلى اعتبار النِّصاب، وهو قيمة عشرين ديناراً، وحُكي أيضاً عن بعض المتقدِّمين، كالشَّيخ (رحمه اﷲ) في النِّهاية والمبسوط، وابن حمزة (رحمه اﷲ) في الوسيلة، بل نسبه في المدارك إلى عامَّة المتأخِّرين.
وبالجملة، فهناك شُهرتان:
الأُولى: شُهرة المتقدِّمين على عدم اعتبار النِّصاب.
الثَّانية: شُهرة المتأخِّرين على اعتبار النِّصاب، وهو عشرون ديناراً. ويبدو أنَّ شهرة المتأخِّرين أعظم من شهرة المتقدِّمين؛ لكثرة القائلين باعتبار النِّصاب.
وحُكي عن أبي الصَّلاح الحلبيّ (رحمه اﷲ) أنَّه اعتبر بلوغ قيمة النِّصاب ديناراً واحداً.
([3]) حكاه عنه في مصباح الفقيه: ج3، ص110.
([4]) المغْرة: الطِّين الأحمر الَّذي يُصبغ به.
([6]) البَلَخْش بفتحتَيْن : ضرب منَ الياقوت، يُؤتى به من بَلَخْشان، وهي بلدة في أعلى طخارستان، متاخمة لبلاد التُّرك.
([7]) السَّبج: الخرز الأسود.
([9]) السرائر: ج1، ص488، 489.
|