ومنها: مرسلة ابن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله N «قال: لا يلبس الرّجل الحرير والدِيبَاج إلاّ في الحرب»[i]f309، ولكنّها ضعيفة بالإرسال.
ومنها: رواية إسماعيل بن الفضل عن أبي عبد الله N «قال: لا يصلح للرّجل أن يلبس الحرير إلاّ في الحرب»[ii]f310، ولكنّها ضعيفة سنداً، ودلالةً.
أمّا سنداً: فلِجهالة عبد الله بن محمّد بن عيسى، وأمّا دلالة فلأنّ كلمة: «لا يصلح» ظاهرة في الكراهة.
ومنها: مرسلة الصّدوق «قال: لم يطلق النبي C لُبْس الحرير لأحد من الرّجال إلاّ لعبد الرحمن بن عوف، وذلك أنّه كان رجلاً قُمَّلاً»[iii]f311، وهي ضعيفة بالإرسال.
ومنها: رواية ليث المرادي «قال: قال أبو عبد الله N: إن رسول الله C كسا أُسامة بن زيد حلّة حرير فخرج فيها، فقال: مهلاً يا أسامة! إنّما يلبسها من لا خلاق له، فاقسمها بين نسائك»[iv]f312، وهي ضعيفة سنداً بأبي جميلة.
ومنها: رواية الحسين بن زيد، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه S في حديث المناهي «قال: نهى رسول الله C عن لُبْس الحرير والدِيبَاج والقزّ للرّجال، فأماّ النساء فلا بأس»[v]f313، وقد ذكرنا في أكثر من مناسبة أنّ حديث المناهي ضعيف جدّاً. وكذا غيرها من الروايات المستفيضة جدّاً، بل لا يبعد كونها متواترة. ولأنّ المسألة من الواضحات جدّاً فلا يلتفت حينئذٍ إلى المناقشة بضعف الأسانيد، وقصور الدّلالة في بعضها.
ثمّ إنّه قدِ استُثني من الحرمة ما كان في حال الحرب والضرورة، أمَّا في حال الحرب فقد عرفت ذلك من الروايات السابقة، والتي منها موثّقة سماعة.
ولكن قد يعارضها معتبرة الحسين بن علوان، عن جعفر عن أبيه J «أنّ عليّاً N كان لا يرى بِلِبْس الحرير والدِيبَاج في الحرب إذا لم يكن فيه التماثيل بأساً»[vi]f314، فإنّ مقتضى اشتراط نفي البأس في هذه المعتبرة إذا لم يكن فيه التماثيل اختصاص الرخصة بهذا الفرض، فتتعارض مع موثّقة سماعة المتقدّمة المصرّحة بنفي البأس، وإن كان فيها تماثيل، ولكن يمكن الجمع بينهما بالحمل على الكراهة، أي يُكره ما فيه التماثيل.
وأمّا بالنسبة لجواز لُبْسه في حال الضرورة فواضح جدّاً، لمعلومية إباحة المحظورات عند الضرورات، ويدل عليه أيضاً الروايات الكثيرة الواردة في أنّه: «ليس شيء ممّا حرم الله إلاّ وقد أحله لمن اضطرّ إليه»:
منها: موثقة أبي بصير «قال: سألتُ أبا عبد الله N عن المريضِ هل تمسك له المرأة شيئاً، فيسجد عليه؟ فقال: لا، إلاّ أن يكون مضطرّاً ليس عنده غيرها، وليس شيء ممّا حرّم الله إلاّ وقد أحلّه لمن اضطر إليه»[vii]f315.
وقد استدلّ أيضاً للجواز في حال الإضطرار: بحديث الرفع، عن حريز عن أبي عبد الله N «قال: قال رسول الله C: رفع عن أمتي تسعة إلى أن يقول: وما اضطرّوا إليه...»[viii]f316، وهو صحيح، فإنّ أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار الذي هو شيخ الصّدوق من المعاريف، وهذا كاشف عن وثاقته.
وقدِ استُدلّ أيضاً بما ورد في عدّة أخبار: «ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر»:
منها: صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد الله N «قال: سمعته يقول في المغمى عليه، قال: ما غلب الله عليه، فالله أولى بالعذر»[ix]f317.
ولكنّ هذا الاستدلال في غير محلّه، لأنّ المراد بالإضطرار المبحوث عنه في المقام هو ما لم يبلغ حدّاً يُسلب معه الاختيار، وهذا الحديث ناظر إلى من كان مغلوباً على أمره، وغير قادر على الفعل، بل مقهور على فعله، فلا يصحّ الاستدلال به في المقام.
ثمّ إنّه هل تجوز الصَّلاة فيه في حال الضّرورة، وحال الحرب؟
أمَّا حال الضرورة: فلا إشكال في الصحَّة فيما لو كان مورد الضرورة مستوعباً لجميع الوقت لعدم سقوط الصَّلاة في هذا الحال، لما عرفت سابقاً من أنّ الصَّلاة لا تسقط بحال.
وأمَّا إذا لم تكن الضرورة مستوعبة لتمام الوقت، بحيث يمكنه إيقاع الصَّلاة في بعض الأوقات بدون اضطرار لِلُبْس الحرير، فهل تصحّ حينئذٍ لو صلاّها حين الاضطرار؟
ذهب المحقّق الهمداني R والسّيد محسن الحكيم R إلى الصحَّة، لأنّ دليل المانعيّة منصرف إلى خصوص المحرّم من اللُبْس، ولا عموم فيها للمحلّل منه، قال المحقّق الهمداني R في المصباح: «فلا يكاد يفهم من تلك الأخبار تحريم الصَّلاة فيه على الإطلاق حتى على تقدير حلية لُبْسه من حيث هو كما في الحرب، ولعلّ هذا هو الأقوى، كما يؤيِّده ظواهر كلمات الأصحاب...».
أقول: لو كان دليل المنع من الصحَّة مستفاداً من إطلاقات أدلَّة حرمة لُبْسه لكان لدعوى الانصراف وجه، ولكنك عرفت أن دليل المنع هو غير دليل الحرمة النفسية، وقد ذكرنا سابقاً أن صحيحتي محمد بن عبد الجبار دلتا على الحرمة الوضعية، لأن قوله N فيهما: «لا تحل الصَّلاة في حرير محض» إرشاد إلى المانعية.
والنتيجة: أنّه لا تصحّ الصَّلاة في الحرير في حال الاضطرار إذا لم تكن الضرورة مستوعبة لجميع الوقت، وأمّا حال الحرب فالكلام فيه هو الكلام في حال الاضطرار.
نعم، قدِ استدل صاحب الجواهر R للصحَّة في حال الحرب: بالدليل الذي دّل على جواز لُبْسه في هذه الحالة، فإنّه مطلق يشمل الجواز التكليفي والوضعي، قال R في الجواهر: «والمراد استثناء حال الحرب من حرمة اللبس، وبطلان الصَّلاة معاً، كما هو ظاهر المتن أو صريحه، بل وغيره من كلمات الأصحاب، ولعلّه لإطلاق نفي البأس حاله في النصوص السابقة المرجّحة على إطلاق النهي عن الصَّلاة فيه بفهم الأصحاب، ومناسبة التخفيف الذي هو الحكمة في الرخصة، وبغير ذلك، فلا يقدح حينئذٍ كون التعارض بينهما من وجه، فتصحّ الصَّلاة فيه حينئذٍ حال الحرب وإن أمكنه النزع بمقدار الصَّلاة، لما عرفت من إطلاق النصّ والفتوى...».
[i] الوسائل باب 1 من أبواب القيام ح7.
[ii] الوسائل باب 56 من أبواب جهاد النفس ح1.
[iii] الوسائل باب 3 من أبواب قضاء الصلوات ح13.
[iv] الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلّي ح9.
[v] الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلّي ح8.
[vi] الوسائل باب 13 من أبواب لباس المصلّي ح6.
[vii] الوسائل باب 16 من أبواب لباس المصلّي ح1.
[viii] صحيح مسلم ج3: 1643/15، سنن أبي داود ج4: 47/4042.
[ix] الوسائل باب 14 من أبواب لباس المصلّي ح1.
|