قال الشهيد الاول رحمه الله في الدروس: الرَّابع: أرض الذِّمّيّ إذا اشتراها من مسلم.
المعروف بين العلماء المتأخِّرين ومتأخِّري المتأخِّرين وجوب الخُمُس في الأرض الَّتي اشتراها الذِّمّيّ من مسلم.
وفي الجواهر: (وجب فيها الخُمُس عند ابني حمزة وزهرة، وأكثر المتأخِّرين من أصحابنا، بل في الرَّوضة نسبته إلى الشَّيخ والمتأخِّرين أجمع، بل في المنتهى والتَّذكرة نسبته إلى علمائنا، بل في الغُنية الإجماع عليه، وهو بعد اعتضاده بما عرفت الحُجَّة...)([1]).
وقال صاحب المدارك (رحمه اﷲ): (هذا الحكم ذكره الشَّيخ (رحمه اﷲ) وأتباعه، والمستند فيه ما رواه الشَّيخ في التَّهذيب، عن سعد بن عبد اﷲ، عن أبي جعفر، عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب إبراهيم بن عثمان، عن أبي عبيدة الحذاء، قال: (سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: أيّما ذمِّيّ اشترى من مسلم أرضاً فإنَّ عليه الخُمُس)([2]).
وحكى العلاَّمة (رحمه اﷲ) في المختلف عن كثير من المتقدِّمين، كابن الجنيد والمفيد وابن أبي عقيل وسلاَّر وأبي الَّصلاح، أنَّهم لم يذكروا هذا القسم، وظاهرهم سقوط الخُمُس فيه، ومال إليه جدِّي (قده) في فوائد القواعد استضعافاً للرِّواية الواردة بذلك، وذكر في الرَّوضة تبعاً للعلاَّمة (رحمه اﷲ) في المختلف أنَّها من الموَّثق، وهو غير جيِّد؛ لأنَّ ما أوردناه من السَّند في أعلى مراتب الصِّحّة، فالعمل بها متعيِّن، لكنَّها خالية من ذكر (مصرف الخمس) متعلَّق الخُمُس صريحاً ومصرفه)([3])، انتهى كلامه رُفع في الخلد مقامه.
أقول: ما ذهب إليه المشهور من وجوب الخُمُس في هذا القسم هو الصَّحيح؛ وذلك لصحيحة أبي عبيدة الحذَّاء المرويّة في التَّهذيب، وقد تقدَّمت في كلام صاحب المدارك (رحمه اﷲ).
ورواها الشَّيخ الصَّدوق (رحمه اﷲ) في الفقيه عن أبي عبيدة الحذَّاء، ولكنَّه لم يذكر في المشيخة سنده إلى أبي عبيدة، فتكون مرسلةً، كما أنَّ
المحقِّق (رحمه اﷲ) في المعتبر رواها عن الحسن بن محبوب، ولم يذكر طريقه إليه، فهي مرسلة أيضاً.
وروى الشَّيخ المفيد (رحمه اﷲ) في باب الزِّيادات من المقنعة عن الصَّادق (عليه السلام) (قَاْل: الذِّمّيّ إذا اشترى من المسلم الأرض، فعليه فيها الخُمُس)([4])، وهي ضعيفة بالإرسال أيضاً.
والخلاصة: أنَّ العُمدة هي رواية الشَّيخ (رحمه اﷲ) في التَّهذيب، فإنَّها صحيحة، والباقي ضعيف بالإرسال.
وعليه، فما نُقل عن الشَّهيد الثَّاني (رحمه اﷲ) في فوائد القواعد من الميل إلى سقوط الخُمُس في هذا القسم استضعافاً للرواية ليس تامّاً.
كما أنَّ ما حُكي عن الشَّهيد الثَّاني (رحمه اﷲ) في الرَّوضة تبعاً للعلاَّمة (رحمه اﷲ) في المختلف من أنَّ هذه الرِّواية من قسم الموثَّق ليس تامّاً أيضاً، بل هي كما عن المدارك في أعلى مراتب الصِّحَّة.
ثمَّ إنَّه لو سلَّمنا بأنَّها من قسم الموثَّق، ولكنَّك عرفت أنَّ الموثَّق حُجَّة لا إشكال.
هذا، وقد أُشكل على الصَّحيحة بإشكالَيْن:
أحدهما: أنَّها معارضة بالرِّوايات الدَّالّة على أنَّ الخُمُس في خمسة أشياء، ولم يُذكر فيها هذا القسم.
وفيه: أنَّه لا تعارض في المقام، بل مفهوم حصر الخُمُس في الخمسة يُقيَّد بهذه الصَّحيحة.
ثانيهما: يُحتمل أن تكون هذه الصَّحيحة واردةً مورد التَّقيّة من مالك بن أنس، حيث ذهب إلى تضعيف العُشر على الذِّمّيّ إذا اشترى أرضا عُشريّة، فيُؤخذ منه الخُمُس.
والأراضي العشريّة هي الَّتي يُؤخذ منها ضريبة العشر الَّذي هو الزَّكاة على الذِّمّيّ، في مقابل الأراضي الخراجيّة، وهو ما يأخذه الحاكم من الخراج والمقاسمة عند تقبيل الأرض.
وفيه أوَّلاً: أنَّه لا معارض لهذه الصَّحيحة حتَّى ُتحمل على التَّقيّة.
وثانياً: أنَّ هذه الصَّحيحة صدرت عن الإمام الباقر (عليه السلام)، ولم يكن مالك بن أنس في ذاك الوقت مشهوراً بالفتوى، وقد كان عمره حين وفاة الإمام الباقر (عليه السلام) عشرين سنة تقريباً، فلم يكن صاحب فتوى، فضلاً عن أن يكون مشتهراً بها.
أضف إلى كلِّ ذلك: أنَّه لم يُحرز صدور الرِّواية في السَّنة الَّتي توفِّي فيها الإمام الباقر (عليه السلام)، فلعلَّها صدرت حين كان مالك بن أنس صبيّاً لم يبلغ الحلم.
وعليه، فاحتمال أن يكون المراد من الخُمُس هنا غير الخُمُس المعهود؛ لأجل التَّقيّة من مالك، ويكون مصرفه مصرف بيت المال ليس تامّاً، بل مصرف هذا الخُمُس هو مصرف غيره من الأخماس، واﷲ العالم.
فرعان:
الأوَّل:
هل يُقتصر في الحكم على الشِّراء خاصّة، أي خصوص ما لو اشتراها الذِّمّيّ من المسلم، أم أنَّه يشمل ما لو تملّكها الذِّمّيّ من
المسلم بأيِّ عقدٍ من عقود المعاوضة، كالصَّلح ونحوه، كما عن كاشف الغطاء (رحمه اﷲ)، دون الانتقال المجّانيّ، أم أنَّه يشمل حتَّى لو انتقلت إليه مجّاناً، كما عن المصنِّف (رحمه اﷲ) في البيان واللُّمعة، والشَّهيد الثَّاني (رحمه اﷲ) في الرَّوضة بإلغاء خصوصيّة الشِّراء عرفاً؟
قال الشَّيخ الأنصاريّ (رحمه اﷲ) في كتاب الخُمُس: (وهل الحكم المذكور يختصّ بالشِّراء كما هو ظاهر المشهور أو يعمُّ مطلق المعاوضة كما اختاره كاشف الغطاء أو مطلق الانتقال ولو مجاناً؟ كما هو ظاهر الشَّهيدَيْن فيه إشكال: من اختصاص النَّصّ والفتوى بالشِّراء، ومن عمومه عرفاً لسائر المعاوضات، ومن أنَّ المناط هو الانتقال، كما يستفاد من نقل أقوال العامّة والخاصّة في المعتبر والمنتهى والتَّذكرة، حيث إنَّ ظاهر الأقوال المذكورة للعامَّة في مقابل الخاصة هو مطلق الانتقال ثمَّ قال أخيراً: والمسألة لا تخلو عن إشكال...)([5]).
والإنصاف: أنَّ ما ذهب إليه المشهور من الاقتصار على الشِّراء خاصَّة هو الأشبه بالقواعد، والأقرب إلى الضَّوابط؛ لأنَّ التَّعميم إلى مطلق عقود المعاوضة، بل وإلى الانتقال المجّانيّ، يحتاج إلى دعوى علم الغيب، فمن أين لنا العلم بالملاكات والمسألة تعبُّديّة، مع أنَّ الحكم مخالف للأصل؟!
فدعوى: الشُّمول إلى مطلق عقود المعاوضة فضلاً عن الانتقال المجّانيّ؛ اعتماداً على تنقيح المناط، مجازفة.
والخلاصة: أنَّ الاقتصار على مورد النَّصّ هو الأسلم، واﷲ العالم.
([2]) الوسائل باب 9 من أبواب ما يجب فيه الخُمُس ح1.
([3]) المدارك: ج5، ص385، 386.
([4]) الوسائل باب 9 من أبواب ما يجب فيه الخُمُس ح2.
([5]) كتاب الخمس للشيخ الأنصاري (رحمه اﷲ): ص102، 103.
|