الأمر الثَّاني: اِختلف الأعلام في اعتبار الحَوْل في كلّ تكسُّب، أو عدمه، وكون الملاحظ في آخر السَّنة هو ما استفاده من مجموع الأرباح من حيث المجموع، فيخمّس ما حصل منها بعد خروج مؤنته ومؤنة عياله.
ذهب جماعة كثيرة من الأعلام، ومنهم المصنِّف (رحمه اﷲ) هنا، إلى أنَّه لا يُعتبر الحَوْل في كلّ تكسُّب، بل يبدأ الحَوْل من حين الشُّروع في التّكسُّب بأنواعه، فإذا تمّ خمَّس ما فضل.
وفي حاشية الشَّرائع للكركيّ (رحمه اﷲ): (فإذا شرع في الكَسْب بأحد الأنواع أوَّل المحرَّم لاحظ مجموع الأرباح الحاصلة له من ذلك النَّوع ومن غيره من الأنواع إلى آخر ذي الحِجّة ربحاً واحداً، كما يُلاحظ جميع المؤن الَّتي عليه في تمام السَّنة المذكورة مؤنةً واحدةً، ويُستثنى مجموع المؤونة من مجموع الرِّبح، والباقي يجب الخُمُس فيه...)([1]).
وذهب جماعة من الأعلام إلى أنَّ لكلِّ ربحٍ سنةً تخصُّه، منهم الشَّهيد الثَّاني (رحمه اﷲ) في الرَّوضة، حيث قال: (ولو حصل الرِّبح في الحول تدريجاً اعتُبر لكلِّ خارجٍ حولٌ بانفراده. نعم، تُوزَّع المؤنة في المدَّة المشتركة بينه وبين ما سبق عليهما، ويختصّ بالباقي، وهكذا...)([2]).
وقال (رحمه اﷲ) في المسالك: (وإنَّما يُعتبر الحَول بسبب الرِّبح، فأوَّله ظهور الرِّبح، فيُعتبر منه مؤونة السَّنة المستقبلة، ولو تجدَّد رِبحٌ آخر في أثناء الحَول كانت مؤونة بقيَّة حول الأوَّل معتبرةً منهما، وله تأخير إخراج خُمُس الرِّبح الثَّاني إلى آخر حوله، ويختصّ بمؤنة بقيّة حولِه بعد انقضاء حول الأوَّل، وهكذا...)([3]).
وتظهر الثَّمرة بين القولَيْن في بعض الأمور:
منها: ما لو ربح في أوَّل محرَّم عشرة دنانير، وفي أوَّل شهر رجب عشرة دنانير أخرى، وفي الأوَّل من ذي الحِجَّة عشرة دنانير ثالثة.
فعلى القول الثَّاني أي أنَّ لكلِّ ربحٍ سنةً تخصُّه : يُستثنى من الأوَّل مؤنة السَّنة الَّتي تنتهي بأوَّل المحرَّم الثَّاني، ومن الثَّاني مؤنة السَّنة الَّتي تنتهي بأوَّل رجب الثَّاني، ومن الثَّالث مؤنة السَّنة الَّتي تنتهى بأوَّل ذي الحِجَّة الثَّاني.
وعليه، فمؤنة ما بين محرَّم ورجب يختصّ استثناؤها بالرِّبح الأوَّل، ولا يجوز استثناؤها من الرِّبحَيْن الأخيرَيْن؛ لعدم كونها في سنتهما، وهكذا يُقال في الباقي.
وأمَّا على القول الأوَّل وهو عدم اعتبار الحَوْل لكلِّ تكسُّب : فتُستثنى المؤنة في آخر السَّنة من مجموع الأرباح الثَّلاثة، ويخمَّس الباقي بعد المؤنة.
ومنها: ما لو ربح في المثال السَّابق خمسين درهماً في آخر ذي الحِجَّة قبل شهر محرَّم الثَّاني، فبناءً على القول الأوَّل فيجب عليه تخميس هذا المال الَّذي ربحه في آخر ذي الحِجَّة، وبقي إلى شهر محرَّم.
وأمَّا على القول الثَّاني: فلا يجب تخميسه إلاَّ إذا بقي إلى شهر ذي الحِجَّة الثَّاني.
إذا عرفت ذلك، فنقول: قدِ استُدلّ للقول الثَّاني بإطلاق الآية الشَّريفة، والرِّوايات المتقدِّمة، فإنَّها ظاهرة في أنَّ كلَّ ربحٍ هو موضوعٌ مستقلٌّ لوجوب الخُمُس.
أُنظر إلى قوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال: 41]، فإنَّ المتبادر منها هو إرادة العموم والشُّمول لكلِّ ربحٍ، فكلُّ ربحٍ فيه خُمُس.
وكذا قوله (عليه السلام) في موثَّقة سماعة المتقدِّمة (سألتُ أبا الحسن (عليه السلام) عن الخُمُس، فقال: في كلِّ ما أفاد النَّاس من قليلٍ أو كثيرٍ)([4])، فإنَّها ظاهرةٌ جدّاً في أنَّ كلَّ ربحٍ هو موضوعٌ مستقلٌّ لوجوب الخُمُس. وكذا غيرها من الرِّوايات الدَّالّة على تعلُّق الخُمُس بجميع ما يستفيده من قليل أو كثير على نحو الاستقلال، وأنَّه لو خاط الخيَّاط ثوباً بخمسة دوانيق، فيكون لأصحاب الخُمُس فيها دانق، وتنزيل الأرباح منزلة الرِّبح الواحد الحاصل في أوَّل السَّنة يحتاج إلى دليل، وهو مفقود.
أضف إلى ذلك: أنَّه لا دليل على احتساب المؤونة السَّابقة على حصول الرِّبح، مع فرض تأخُّر حصول الرِّبح عن أوَّل زمان التّكسُّب بناءً على أنَّ مبدأ السَّنة هو أوَّل الشُّروع في التّكسُّب إذ هو حينئذٍ كالزَّمان السَّابق على التّكسُّب.
وبالجملة، فإنَّ مقتضى إطلاق الآية الشَّريفة، والرِّوايات المتقدِّمة، هو أنَّ لكلِّ ربحٍ سنةً تخصُّه حتَّى لو كانت أفراد الربح من نوع واحد من التِّجارة أو الصِّناعة أو الزِّراعة، ونحو ذلك.
ويؤيِّد ما ذكرناه، بل يدلّ عليه: ما سيأتي إن شاء اﷲ تعالى
في خمس الغَوص والمعدن والكنز من البناء على ملاحظة كلّ فرد مستقلاًّ موضوعاً لوجوب الخُمُس مع التّعدُّد عرفاً، ولا فرق بينها وبين المقام.
نعم، قد يُستشكل على القول: بأنَّ لكلِّ ربحٍ سنةً تخصُّه، بأنَّ لازمه ملاحظة مقدار المؤن الواقعة في ما بين الأرباح، وضبطها على نحو يعلم كيفيّة التَّوزيع، وفيه حرجٌ شديدٌ في أكثر أنواع الاكتساب، بل لعلَّه متعذِّر؛ لعدم إمكان معرفة مقدار ما يفضل من كلٍّ منها عند انقضاء سنته، لاسيّما مثل الصَّانع الَّذي يربح في كلّ يوم أو في كلِّ ساعةٍ شيئاً، ولو وجب مثل ذلك للزم الهرج والمرج.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ الأمر ليس كذلك، فلا تعذُّر في ضبطها، ولا يلزم منه الهرج والمرج، ولا الحرج الشَّديد، فالصَّانع الَّذي يربح في كلِّ يومٍ أو في كلِّ ساعةٍ لا يبقى ربحه إلى آخر السَّنة، بل يصرفه في مؤنته وإن بقي منه شيء إلى آخر السَّنة، فمعرفة مقدار ما يفضل من كلٍّ منها عند انقضاء سنته ليس بهذه الصُّعوبة الَّتي ذكروها.
نعم، يجوز له أن يجعل لكلِّ أرباحه رأسَ سنةٍ واحدٍ من باب التَّسهيل عليه.
وعليه، فإذا مضت سنةٌ من أوَّل ظهور الرِّبح الأوَّل خمَّسَ الباقي وإن لم تمرّ على ربحه سنةٌ، وقد ذكرنا سابقاً أنَّ الخُمُس متعلِّق بالرِّبح بمجرَّد ظهوره فيما لو زاد عن مؤنته، ولا يجب الانتظار إلى آخر السَّنة حتَّى يُخمّس.
نعم، يجوز له التَّأخير إرفاقاً به؛ لاحتمال تجدُّد مؤونة لم تكن بالحُسبان، ولكن لو أراد أن يُخمِّس قبل انتهاء العامّ، فلا مانع منه.
وعليه، فيجوز إخراج خمس الربح المتأخِّر وإن لم يمرّ عليه سنة، واﷲ العالم بحقائق أحكامه.
* * *
قال الشهيد الاول رحمه الله في الدروس: ولو ملك قبل الحَوْل ما يزيد على المؤونة دفعةً أو دفعات تخيَّر في التَّعجيل والتَّأخير.
لما عرفته سابقاً من أنَّ التَّأخير إلى آخر السَّنة إنَّما هو من باب الاحتياط وإرفاقاً به؛ لاحتمال تجدُّد مؤونةٍ لم تكن بالحُسبان، وإلاَّ فيجوز له التَّعجيل؛ لِما عرفت من أنَّ الخُمُس متعلِّق بالرِّبح من أوَّل ظهوره بعد استثناء المؤونة، ولا يجب الانتظار إلى آخر السَّنة، واﷲ العالم.
([1]) حكاه عنه في المستمسك: ج9، ص531.
([2]) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: ج2، ص78.
([4]) الوسائل باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح6.
|