وقال المصنّف R في الذكرى: «لعلّه ما يسمى في زماننا بمصر: وبر السّمك، وهو مشهور هناك»، وقال في حواشي القواعد: «سمعت بعض مدمني السّفر يقول: أن الخز هو القندس، وقال: وهو قسمان ذو إلية، وذو ذنب، فذو الإلية الخزّ، وذو الذنب الكلب».
وقال الشيخ فخر الدين بن طريح النجفي طاب ثراه في كتاب مجمع البحرين: «الخزّ بتشديد الزاء : دابّة من دوابّ الماء تمشي على الأربع تشبه الثعلب وترعى في البرّ، وتنزل البحر، لها وبر يعمل منه الثياب تعيش بالماء، ولا تعيش خارجه، وليس على حدّ الحيتان، وذكاتها إخراجها من الماء حيّة قيل: وقد كانت في أوّل الإسلام إلى وسطه كثيرة جدّاً».
وقال المحقِّق R في المعتبر: «والخزّ دابّة بحريّة ذات أربع، تصاد من الماء، وتموت بفقده إلى أن قال: وحدّثني جماعة من التجّار أنّها القندس، ولم أتحققه».
أقول: لا خلاف في الواقع بين الأعلام، لأنّ ما سمّوه بالقندس هو الذي سمّاه الآخرون بكلب الماء، وسماه بعضهم بوبر السمك، وعن بعضهم التصريح بأنّ القندس هو كلب الماء.
وبالجملة، فلا يقدح هذا النحو من الاختلاف في حجيّة أصالة عدم النقل.
وأمَّا ما حكاه المجلسي R عن التجّار من أنَّها دابة تعيش في البر، ولا تموت بالخروج من الماء، فربّما يؤيِّده خبر حمران بن أعين، «قال سألتُ أبا جعفر N عن الخز، فقال: سبع يرعى في البر، ويأوي الماء»[i]f257.
ففيه: أنه يحتمل أنّه يريد بعدم تعيشها خارج الماء المدّة الطويلة، بحيث لا ينافي خروجها من الماء للرعي.
وأمَّا رواية حمران بن أعين التي جعلها مؤيِّدة : فهي ضعيفة بمحمد بن علي القرشي، وبجهالة محسن بن أحمد.
وينافي ما ذكره صحيحة عبد الرحمان بن الحجّاج المتقدّمة الدّالة على عدم تعيّشها خارج الماء: (إنّها (علاجي) في بلادي، وإنّما هي كلاب تخرج من الماء، فقال أبو عبد الله N: إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا، فقال: ليس به بأس)[ii]f258، كما ينافيه خبر ابن أبي يعفور المتقدّم[iii]f259 الدّال على أنّه دابّة إذا فقدت الماء ماتت، وأنَّ ذكاته خروجه من الماء كالحيتان، ولكنّه ضعيف بعدّة من المجاهيل، وهم عبد الله بن إسحاق العلوي، ومحمّد بن سليمان الديلمي، وقريب الراوي عن ابن أبي يعفور، هذا كلّه بالنسبة لمفهوم حيوان الخزّ.
وأمّا تشخيص مصداقه، فهل يكفي إخبار البائع بذلك، أم لا؟
ذهب إلى الأوَّل: المحقق الهمداني، حيث قال: «ويكفي في إحراز كونه ذلك الموضوع إخبار التجّار وغيرهم من المتصدّين لبيعه، ممَّن يوثق بهم، وبمعرفتهم، لاستقرار السّيرة على التعويل على قول الثقات من أرباب الصنائع والبضائع في ما بأيديهم، فمن أراد أن يشتري شيئاً من الأدوية يرجع إلى العطّار الذي يثق به ويأخذ منه ذلك الدواء مع أنّه بنفسه لا يعرفه، وكذا لو أراد شيئاً من الأقمشة يرجع إلى التجّار، كما يشهد على ذلك مضافاً إلى ذلك أخبار الباب، فإنّه لم يقصد بها بحسب الظاهر إلاّ الرخصة في الصَّلاة في وبر الخزّ، وجلده المتلقى من أيدي التجّار ونظرائهم، ومن الواضح أنّه لا طريق لتشخيص موضوعه لأغلب النّاس في بلد وردت فيه الرّوايات، إلاّ هذا...».
وفيه: إن كان مقصوده حصول الوثوق والاطمئنان من قولهم باعتبار أنّهم أهل خبرة فبه، وإلاّ فمع عدم حصول الاطمئنان من قولهم فلا دليل على اعتبار إخبارهم، ولم يثبت أنّ السّيرة قائمة على الأخذ بقولهم بمجرد أنّهم أصحاب يد على هذه البضاعة، والله العالم.
ثمَّ إنّه قد أشرنا في أوّل المسألة أنّ المستثنى هو الخزّ الخالص، فلا تجوز الصَّلاة بالمغشوش بوبر الأرانب والثعالب، كما هو المشهور بين الأعلام، بل في مفتاح الكرامة: نقل الإجماع على اشتراط الخلوص من هذين عن التذكرة، ونهاية الأحكام، وكشف الالتباس، وجامع المقاصد، وغيرها.
أقول: قد يُستدلّ لذلك بروايتَيْن:
الأولى: مرفوعة أيوب بن نوح (قال: قال أبو عبد الله N: الصَّلاة في الخزّ الخالص لا بأس به
فأمَّا الذي يخلط فيه وبر الأرانب، أو غير ذلك، ممَّا يشبه هذا، فلا تصلّ فيه»[iv]f260.
الثانية: مرفوعة أحمد بن محمد، وهي مثل المرفوعة الأولى[v]f261، ولكنّهما ضعيفتان بالرفع، وإن نقل المحقِّق R في المعتبر عن جماعة من الأعلام انعقاد الإجماع على العمل بمضمونها.
ولكنَّك عرفت في أكثر من مناسبة أنَّ عمل المشهور لا يكون جابراً لضعف السند.
والإنصاف: أنَّه يُستدلّ للمنع بإطلاقات الأخبار المتقدِّمة المانعة عن الصَّلاة فيما لا يُؤْكل لحمه، والشاملة بإطلاقها للمغشوش، وغيره، بعد ظهور استثناء الخز في الاختصاص بالخالص منه.
نعم، في خبر داود الصرمي «أنَّه سأل رجل أبا الحسن الثالث N عن الصَّلاة في الخزِّ يُغشّ بوبر الأرانب، فكتب: يجوز ذلك»[vi]f262، ورواها الشيخ R أيضاً عن داود الصرمي عن بشر بن بشَّار «قال: سألته...» الحديث بلفظه[vii]f263، ولكنه لا يصلح للمعارضة لضعفه سندا بجهالة داود الصرمي، وبشر بن بشار.
أضف إلى ذلك: أنَّ السَّند مضطرب، ففي أحد الطريقَيْن داود الصرمي عن بشر بن بشَّار، وفي الطريق الآخر عن داود الصرمي أنَّه سأل رجل أبا الحسن الثالث N، ففي الأوَّل ينقل داود عن بشر، وفي الثاني يظهر أنَّ داود كان حاضراً حين السُّؤال، وأيضاً قد حملها الشيخ R على التقية لموافقتها للجمهور.
ثمَّ إنَّه لم ينقل القول بالجواز عن أحد عدا الصدوق R في الفقيه، حيث قال في توجيه رواية الجواز: «هذه رخصة الآخذ بها مأجور، والراد لها مأثوم، والأصل ما ذكره أبي في رسالته إليّ: وصلّ في الخزّ ما لم يكن مغشوشاً بوبر الأرنب».
[i] الوسائل باب 9 من أبواب لباس المصلّي ح2.
[ii] الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلّي ح5.
[iii] الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلّي ح1.
[iv] الوسائل باب 4 من أبواب لباس المصلّي ح2.
[v] الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلّي ح4.
[vi] الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلّي ح6.
[vii] الوسائل باب 3 من أبواب لباس المصلّي ح3.
|