ومنها: رواية يحيى بن أبي عمران «أنّه قال: كتبتُ إلى أبي جعفر الثاني N في السِّنجاب والفنك والخزّ، وقلت: جعلت فداك! أُحبّ أن لا تجيبني بالتقيَّة في ذلك، فكتب بخطّه إليّ: صلّ فيها»[i]f253، وهذه الرّواية أوضح من موثَّقة معمّر بن خلاّد، لأنّ اقتران الخزّ بغيره من السنجاب والفنك يكشف عن أنّ المراد به واحد، وهو الصَّلاة في أجزاء هذه الحيوانات من الجلد والوبر، وغيرهما، إلاَّ أنّها ضعيفة السند، لا لأجل محمَّد بن علي بن ماجيلويه الذي هو شيخ الصدوق، فهو من المعاريف، ما يكشف عن وثاقته، وإنّما الرّواية ضعيفة لعدم وثاقة يحيى بن أبي عمران.
ومنها: صحيحة عبد الرحمان بن الحجّاج «قال: سأل أبا عبد الله N رجل وأنا عنده عن جلود الخزّ، فقال: ليس بها بأس، فقال الرّجل: جعلت فداك! إنّها علاجي (في بلادي)، وإنّما هي كلاب تخرج من الماء!، فقال أبو عبد الله N: إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرّجل: لا، قال: ليس به بأس»[ii]f254.
وقد يُشكل على هذه الصحيحة: بأنّها، وإن كانت صريحة في الجلد، إلاَّ أنّه ليس فيها تصريح بالصَّلاة.
ولكن يُجاب عن هذا الإشكال: بأنّ المتبادِر من نفي البأس عن جلود الخزّ إرادة نفي البأس عن الاستعمالات المتعارفة في نوعه، فكما يُفهم من ذلك نفي البأس عن لُبْسه مع عدم وقوع التصريح باللبس، فكذلك يفهم منه جواز اتخاذه ثوباً على حدّ سائر ثيابه التي يصلَّي فيها، كما هو المتعارف في نوعها، فلو كان جوازه مخصوصاً بغير حال الصَّلاة لم يكن يحسن إطلاق نفي البأس في مقام الجواب.
نعم، لو كان السُّؤال متعلِّقاً بخصوص لُبْسه لأمكن دعوى أنّ إطلاق الجواب منزّل عليه من حيث هو، ولكنّه ليس كذلك، بل السُّؤال تعلَّق بنفس الجلود بلحاظ استعمالاتها المتعارفة، ومن الواضح أنّ اتخاذها ثوباً يصلّي فيه من أوضح مصاديقها المتعارفة.
ومنها: صحيحة سعد بن سعد عن الرضا N «قال: سألتُه عن جلود الخزّ، فقال: هو ذا نحن نلبس، فقلت: ذاك الوبر، جعلت فداك!، قال: إذا حلّ وبره حلَّ جلده»[iii]f255.
وقد يُشكَل على الاستدلال بهذه الصحيحة: بأنّها، وإن كانت صريحة في نفي البأس عن الجلد وعدم الفرق بينه وبين الوبر، ولكنّها غير صريحة في إرادته حال الصَّلاة، وإنّما تدلّ على جواز لُبْسه، وهو لا يستلزم جواز الصَّلاة فيه.
وقد يُجاب عن ذلك: بأنَّ قوله N: «هَوْذا» بفتح الهاء وسكون الواو كلمة مفردة تُستعمل للتأكيد، والتحقيق والاستمرار والتتابع والاتصال، مرادفة «همي» في لغة الفرس المستعملة في أشعارِ بُلَغائهم كثيراً، لا أنَّ المراد منها: الضمير واسم الإشارة، فيكون إخباره N باستمرار لُبْسه واتصاله كالصَّريح في شموله لحال الصَّلاة، وإلاَّ لنُقِل عنهم S نزعهم له حالها.
أضف إلى ذلك: أنَّ تعليق حِلّ الجلد على حِلّ الوبر الشامل بإطلاقه لحلّ الصَّلاة، مع حلّ الصَّلاة في الوبر إجماعاً، بل تسالماً، ونصّاً، دليل حلّ الصَّلاة في الجلد.
بل قد يُقال : إنَّ الإشكال على هذه الصحيحة بأنَّها تدلّ على جواز لُبْسه، وهو لا يستلزم جواز الصَّلاة فيه، غير وارد أصلاً، وذلك لأنّ الباعث على السُّؤال عن الجلود بحسب الظاهر على ما هو المنساق إلى الذهن عند السّؤال عنها إمَّا احتمال نجاستها بلحاظ كونها متخذة من الميتة، أي نجاسة عرضيّة، وإمَّا احتمال نجاستها الذاتيّة، باعتبار كونها من أجزاء كلاب الماء المحتمل نجاستها عيناً بلحاظ اندارجها في مسمّى الكلب، أو احتمال المنع عنها بلحاظ كونها من أجزاء غير المأكول.
وأمَّا الاحتمال الأوَّل: فهو بعيد عن الصحيحة، وإلاَّ لم يكن يعلَّق حِلّ الجلد على حِلّ الوبر، إذ لا ملازمة بينهما، فإنّ جلد الميتة نجس لا يحلّ استعماله دون الوبر.
وأمَّا الاحتمال الثاني: فهو أبعد، إذ كيف يحتمل في حقّ السّائل وهو سعد بن سعد الذي هو من أجلاء أصحاب الإمام الرضا N أن يخفى عليه مثل هذا الحكم، أعني اختصاص النجاسة الذاتيّة بالكلب البريّ دون البحريّ، وبالأخصّ أنّه رأى الإمام N وقد لبس الوبر، كما اعترف به في الصحيح؟!، فهل يحتمل في حقّه أن يفرِّق في أجزاء النجس الذاتي بين الوبر والجلد، مع عدم خفائه على أصاغر الطلبة؟!
وعليه، فلم يبقَ إلاَّ الاحتمال الثالث، والمتبادر من السّؤال عن الجلود من هذه الجهة إرادة لُبْسها في الصَّلاة، لأن معهودية المنع عن الصَّلاة في أجزاء ما لا يُؤْكل لحمه في الجملة تُوجب صرف السّؤال عن شيءٍ منها إلى الجهة التي هي مظنَّة المنع، لا مطلق لُبْسه.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ الأقوى ما ذهب إليه المشهور من جواز الصَّلاة في جلده أيضاً.
وأمَّا ما استُدل به على المنع بالتوقيع المروي في الاحتجاج عن محمَّد بن عبد الله الحميري عن صاحب الزمان N أنَّه كتب إليه: «روي لنا عن صاحب العسكر N أنّه سُئِل عن الصَّلاة في الخزّ الذي يُغشّ بوبر الأرانب، فوقع: يجوز، وروي عنه أيضاً: أنه لا يجوز، فبأيِّ الخبرَيْن نعمل؟ فأجاب N: إنَّما حرم في هذه الأوبار والجلود، فأمّا الأوبار وحدها فكلٌ حلال»[iv]f256.
وفيها أوَّلاً: أنَّها ضعيفة بالإرسال.
وثانياً: أنَّ متنها مضطرب في الجملة، وإلا فمقتضى تنزيل الجواب على السؤال كون الموضوع خصوص المغشوش بوبر الأرانب، وهو خارج عن محل الكلام، والله العالم.
ثمَّ إنَّ الظَّاهر جريان الحكم على ما في أيدي التجّار ممَّا يسمَّى في زماننا خزّاً، لأصالة عدم النقل، ولكن عن المحدِّث المجلسي R في البحار أنَّه قال: «واعلم أنَّ في جواز الصَّلاة في الجلد المشهور في هذا الزمان بالخزّ، وشعره، ووبره، إشكالاً، للشكّ في أنّه هل هو الخزّ المحكوم عليه بالجواز في عصر الأئمة S أم لا، بل الظّاهر أنّه غيره لأنّه يظهر من الأخبار أنّه مثل السّمك، يموت بخروجه من الماء، وذكاته إخراجه منه، والمعروف بين التجّار أنّ الخزّ المعروف الآن دابّة تعيش في البرّ، ولا تموت بالخروج من الماء، إلاّ أن يقال: إنَّهما صنفان بري وبحري، وكلاهما يجوز الصَّلاة فيه وهو بعيد؛ ويشكل التمسّك بعدم النقل واتصال العرف من زماننا إلى زمانهم S، إذ اتصال العرف غير معلوم، إذ وقع الخلاف في حقيقته في أعصار علمائنا السالفين أيضاً رضوان الله عليهم، وكون الأصل عدم النقل في مثلِ ذلك حجّة في محلّ المنع، والاحتياط في عدم الصَّلاة فيه».
أقول: منع حجية أصالة عدم النقل في غير محلّه، إذ ليس حاله إلاّ حال سائر الموضوعات التي يحتمل كونها في عرف السّابقين موضوعة لغير المعاني المعروفة عندنا، وهذا الاحتمال ممَّا لا يلتفت إليه، واختلاف العلماء في حقيقته نشأ من عدم اطلاعهم على حقيقة ذلك الحيوان الذي يعرفه أهل خبرته، ويتخذون الثياب من جلده ووبره، فبعضهم يزعم أنَّه القندس، مستشهداً لذلك بشهادة بعض التجَّار، وبعضهم زعم أنّه كلب الماء، كما يشهد له بعض الأخبار.
[i] وسائل الشيعة باب 8 من أبواب لباس المصلّي ح4.
[ii] الوسائل باب 9 من أبواب لباس المصلّي ح1، وذيل ح1.
[iii] الوسائل باب 9 من أبواب لباس المصلّي ح1، وذيل ح1.
[iv] الوسائل باب 9 من أبواب لباس المصلّي ملحق الحديث الثاني.
|