• الموقع : موقع سماحة اية الله الشيخ حسن الرميتي .
        • القسم الرئيسي : بحث الاصول .
              • القسم الفرعي : مبحث الأوامر / بحث الاصول .
                    • الموضوع : الدرس 188 _ المقصد الأول في الاوامر 120 .

الدرس 188 _ المقصد الأول في الاوامر 120

إذا عرفت ذلك فنرجع إلى مسألتنا، وهي هل دليل الناسخ أو المنسوخ يدلّ على الجواز بعد ارتفاع الوجوب بالنسخ أو لا يدلّ؟

نقول: المعروف بين الأعلام أنّه إن ارتفع الوجوب فلا يبقى الجواز لا بالمعنى الأعم وهو غير الحرمة، ولا بالمعنى الأخص وهو الإباحة التي هي إحدى الأحكام التكليفية الخمسة، وبالتالي لا يجوز الإتيان بالفعل بقصد أحدها؛ إذ لا دليل يدلّ عليها؛ أمّا الدليل المنسوخ، فإنّ وظيفته تنحصر في الدلالة على الوجوب، وأمّا الدليل الناسخ فقد رفع الوجوب ولم يدلّ على شيء.

قد يقال: إنّ الدليل المنسوخ بدلالته على الوجوب دلّ على الجواز أيضاً؛ لأنّ الوجوب مركّب من الجواز والمنع من الترك، فإذا رفع الدليل الناسخ المنع من الترك بقي الجواز؛ وذلك من قبيل بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل.

وجوابه: قلنا سابقاً: إنّ الأحكام الشرعية أمور اعتبارية بسيطة في غاية البساطة، فلا تركّب فيها، فهي ليست أموراً حقيقية ولا مجعولة شرعاً، وإنّما انتزعها العقل من أدلتها. فمثلاً: إذا أمر المولى بشيء، فالعقل يدرك أنّه لا مؤمِّن يوم القيامة من العقاب إن لم يمتثل المكلّف، فينتزع العقل حينئذٍ الوجوب.

نعم، إذا رخّص المولى في تركه فيكون هذا هو المؤمِّن، وبالتالي لا يكون المكلف ملزماً بامتثاله. وهكذا الحال في النهي، فإذا نهى المولى عن شيء ولم يرخِّص في ارتكابه، فينتزع العقل الحرمة.

وبالجملة، فالقول بأنّ الوجوب مركّب من جواز الفعل مع المنع من الترك يكون تفسيراً بما هو لازم له. وبالتالي، لا يدلّ الدليل المنسوخ على الجواز والمنع من الترك، ليبقى الأوّل إذا ارتفع الثاني.

أمّا بالنسبة لبقاء الجنس بعد ارتفاع فصله.

ففيه: أوّلاً: أنّه قياس مع الفارق؛ إذ البحث هناك بحث فلسفي عن الإمكان العقلي للبقاء وعدمه، وليس في الوقوع وعدمه.

ثانياً: أنّ الإنصاف في هذه المسألة أنّه مع ارتفاع الفصل يرتفع الجنس أيضاً؛ لأنّ لكل فصل حصة خاصة من الجنس تتمايز عن غيرها؛ فحيوانية الإنسان متمايزة عن حيوانية الحصان، وحيوانيتهما متمايزة عن حيوانية الأسد، وهكذا؛ إذ كلّ ما في الخارج جزئي حقيقي متشخص ومتمايز عن غيره.

وعليه، إن ارتفع الفصل ارتفعت الحصة الخاصة من الحيوانية التي كانت معه تشكّل النوع.

وقد يقال: إنّه من المعروف عند الأعلام أنّه إن دلّ دليل على وجوب شيء، ودلّ دليل آخر على الترخيص فيه، فيكون الدليل الثاني رافعاً للوجوب في الدليل الأوّل، وقرينة لحمله على الاستحباب، وبالتالي بقاء الجواز، وهذه قاعدة سيّالة في جميع أبواب الفقه. فلماذا لا نقول ذلك فيما نحن فيه بعدما رفع الدليل الناسخ الوجوب في الدليل المنسوخ، فيحمل الدليل المنسوخ على الاستحباب، وهو معنى الجواز؟!

وجوابه: أنّ هذا الجمع بين الدليلين إنّما يتم في غير الحاكم والمحكوم، وأمّا فيهما فلا، بل لا بدّ من الأخذ بدليل الحاكم ورفع اليد عن دليل المحكوم، وإن كان ظهوره أقوى بمراتب من دليل الحاكم. وفي المقام بعد أن كان دليل النسخ ناظراً بمدلوله اللفظي إلى مدلول دليل المنسوخ بلحاظ تعرضه لرفع الحكم الثابت بدليله.

وعليه، لا يبقى مجال لملاحظة دليل المنسوخ وأقوائية ظهوره من ظهور الدليل الناسخ، وفي مثله لا بدّ من الأخذ بدليل الناسخ ورفع اليد عمّا يقتضيه دليل المنسوخ. ومن هنا لا يبقى مجال لاستفادة الاستحباب من دليل المنسوخ.

الأصل العملي:

قال صاحب الكفاية R: «فلا بد للتعيين من دليل آخر، ولا مجال لاستصحاب الجواز، إلا بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، وهو ما إذا شك في حدوث فرد كلي مقارناً لارتفاع فرده الآخر، وقد حققنا في محله، أنّه لا يجري الاستصحاب فيه، ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع، بحيث عد عرفاً ­ لو كان ­ أنّه باق، لا أنّه أمر حادث غيره. ومن المعلوم أن كل واحد من الأحكام مع الآخر عقلاً وعرفاً، من المباينات والمتضادات، غير الوجوب والاستحباب، فإنّه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلاً إلا أنهما متباينان عرفا، فلا مجال للاستصحاب إذا شك في تبدل أحدهما بالآخر، فإنّ حكم العرف ونظره يكون متَّبَعا في هذا الباب».

لقائل أن يقول: حيثما كان الوجوب كان الجواز معه، فإذا ورد الدليل الناسخ ارتفع المنع من الترك، فشككنا ببقاء الجواز، فنستصحبه.

وفيه: أوّلاً: أنّ هذا الاستصحاب من استصحاب الكلّي من القسم الثالث، وهو غير جارٍ؛ فإنّ استصحاب الكلي على أقسام ثلاثة:

­ القسم الأوّل: كما لو دخل زيد الدار، فعلمنا بوجود الإنسانية فيها، ثمّ شككنا ببقائها للشك في خروج زيد، فهنا نستصحب بقاء الإنسانية بالاتفاق فيما لو كان للكلي أثر عملي.

­ القسم الثاني: كما لو دخل حيوان الدار، ولم ندرِ أهو البقُّ الذي يعيش ثلاثة أيام، أم الفيل الذي يعيش أكثر من ذلك بكثير؟ ثمّ بعد مرور ثلاثة أيام شككنا في بقاء الحيوانية في الدار؛ فإن كان الداخل هو البقّ انتفت الحيوانية، وإن كان الفيل بقيت، فهنا نستصحب بقاء الحيوانية فيما لو كان ثمّة أثر شرعي مترتّب على بقاء الكلي. وأمّا الإشكالات الواردة على هذا الاستصحاب فمدفوعة، كما سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في محلّه.

­ القسم الثالث: كما لو دخل زيد الدار، ثمّ خرج منها في حين احتملنا دخول بكر حين خروج زيد، فشككنا في بقاء الإنسانية في الدار، فهنا لا يجري الاستصحاب؛ لأنّ الإنسانية التي علمنا بوجودها في الدار قد علمنا بخروجها يقيناً بخروج زيد، وإنّما نشك بحدوث حصة خاصة من الإنسانية، وهي إنسانية بكر، فلا يمكن استصحابها؛ لعدم الشك في البقاء الذي هو ركن في الاستصحاب.

وهنا الجواز الذي ضمن الوجوب قد ارتفع حتماً، ولا دليل على حدوث جواز آخر، فلا يمكن استصحابه لما عرفت من عدم الشك في البقاء.

وثانياً: مع قطع النظر عن الإشكال السابق، إنّ هذا الاستصحاب من استصحاب الحكم الكلي الذي ذهبنا إلى عدم جريانه؛ لأنّنا نشك في أنّ الجواز الذي هو الرجحان هل جعله الشارع مع الوجوب فقط أم إلى ما بعد ارتفاعه؛ أي نشك في سعته وضيقه، فيتعارض استصحاب المجعول مع استصحاب عدم الجعل، فيتساقطان.

ثمّ تعرض صاحب الكفاية إلى صورة مستثناة من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، وهي ما لو كان المشكوك من مراتب المتيقَّن السابق؛ كما لو كان عندي احمرار شديد ثمّ شككت بتبدله إلى احمرار ضعيف أو زواله بالمرّة، فهنا ذهبوا إلى جريان الاستصحاب؛ لأنّ العرف يرى أنّ المرتبة الضعيفة مرتبة نازلة من المرتبة القوية، كما أنّ المرتبة القوية مرتبة صاعدة من المرتبة الضعيفة، فيجري الاستصحاب رغم كونه من استصحاب الكلي من القسم الثالث. وهنا، فإنّ الاستحباب طلب ضعيف، والوجوب طلب شديد؛ فالاستحباب مرتبة نازلة من مراتب الطلب، فإذا شككنا في زوال أصل الطلب أو تبدّله إلى مرتبة ضعيفة، فنستصحب بقاءه.

وفيه: أوّلاً: أنّ الاستصحاب على هذا النحو المذكور ليس من استصحاب الكلي من القسم الثالث أصلاً، بل هو من القسم الأوّل، وجريان الاستصحاب فيه موضع اتفاق؛ لأنّ الكلي الذي كنّا على يقين بوجوده هو نفسه الذي نشك في بقائه.

وثانياً: أنّ قياس الجواز على الاحمرار الشديد والضعيف في غير محلّه؛ إذ الاحمرار الشديد والضعيف أمران حقيقيّان من مقولات العرض، وليسا مركّبين؛ إذ ما به الاشتراك عين ما به الامتياز، بينما الوجوب والاستحباب متباينان عرفاً، وإن كان الاستحباب مرتبة نازلة من الوجوب بالدقة العقلية، إلا أنّ الموضوع في الاستصحاب يكون الحاكم فيه هو العرف لا العقل.

وعليه، فالجواز الذي في الوجوب قد ارتفع يقيناً بعد ورود الدليل الناسخ، بينما الجواز الذي في الاستحباب حصّة خاصة مغايرة للأولى عرفاً، ونشكّ في أصل حدوثها، فيكون داخلاً في استصحاب الكلي من القسم الثالث.

والنتيجة: لا يوجد شيء يدلّ على بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب، لا الدليل الناسخ ولا المنسوخ ولا الاستصحاب، والله العالم.


  • المصدر : http://www.al-roumayte.com/subject.php?id=2574
  • تاريخ إضافة الموضوع : الإثنين: 20-01-2014
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29