التفصيل في المقدمية:
قال صاحب الكفاية R: «ومما ذكرنا ظهر أنّه لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم، في أن عدمه الملائم للشيء المناقض لوجوده المعاند لذاك، لا بد أن يجامع معه من غير مقتض لسبقه، بل عرفت ما يقتضي عدم سبقه».
بعد أن آمن المحقق الخونساري R ومن تبعه بأنّ عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر، فرَّقوا بين صورتين:
الأولى: إذا كان الضدّ موجوداً، فيكون الضد الآخر متوقفاً على عدم الضد الموجود؛ فإذا كان السواد موجوداً، توقف البياض على عدمه.
الثانية: إذا كان الضد معدوماً، فلا يتوقف شيء على عدمه، فإذا كان السواد معدوماً، لا يكون البياض متوقفاً على عدمه.
هذا ما نسب إلى المحقق، وقيل إنّ الشيخ الأعظم مال إليه، ولكن صاحب الكفاية وكل من أنكر مقدمية عدم أحد الضدين للضد الآخر، لم يفرقوا بين الصورتين في نفي المقدمية؛ لأنّ عدم الضد سواء كان موجوداً أو معدوماً هو في رتبة الضد الآخر، فلا يمكن أن يكون عدم مانع له؛ لأنّ عدم المانع لا بد أن يتقدم على معلوله.
ولكن الغريب أنّ المحقق ذهب إلى هذا التفريق رغم ما أقرّه من استحالة اجتماع المقتضيين؛ إذ مع وجود السواد مثلاً، لا يمكن تعليل عدم وجود البياض بمانع وجود السواد؛ فإنّه لا يتصف وجود السواد بالمانعية عن وجود البياض والحال أنّ مقتضي البياض مفقود؛ لاستحالة وجوده مع مقتضي السواد.
وقد حاول البعض تبرير هذا التعليل للمحقق بالقول إنّه مبتنٍ على أنّ الحادث إنّما يحتاج إلى العلة في حدوثه دون بقائه؛ فالسواد مثلاً يحتاج إلى المقتضي في وجوده، وبعد ذلك ينتفي احتياجه إلى مقتضٍ، وعليه لا يستحيل وجود مقتضٍ للبياض في عرض وجود السواد، فإذا وجد المقتضي للبياض مع شرطه ومع ذلك لم يتحقق البياض في الخارج، فيكون ذلك لأجل وجود السواد، ومن هنا كان عدم الضد الموجود مقدمة للضد الآخر.
والجواب: هذا القول لا يمكن القبول به، بل لا يحتمل أن يكون تعليل المحقق مبنياً عليه؛ ذلك أنّ كل ممكن خاضع لمبدأ العلية حدوثاً وبقاءً؛ فإنّ احتياجه إلى العلة ذاتي، فلا يعقل أن يكون وجوده منقطعاً عن العلة في آنٍ من الآنات، لا في الأفعال الإرادية الاختيارية ولا في الموجودات التكوينية.
أمّا في الأفعال الاختيارية؛ فلما عرفت سابقاً من أنّه ليس معلولاً للإرادة حتى يكون غير اختياري؛ باعتبار أنّ الإرادة ومقدماتها غير اختيارية، بل الفعل الاختياري مسبوق بالاختيار، وهذا الاختيار للنفس ذاتي لها بالمعنى الموجود في باب البرهان؛ فكل فعل اختياري في أي من الأوقات يحتاج إلى هذا الاختيار في النفس، وإذا انعدم هذا الاختيار فيستحيل بقاء الفعل الاختياري. وعليه، لا فرق بين حدوث الفعل الاختياري وبقائه في الحاجة إلى هذا الاختيار.
وأمّا بالنسبة إلى الموجودات التكوينية، فحالها حال الفواعل الإرادية؛ إذ من الواضح حاجة الأشياء إلى علل وأسباب، فإنّ كل ممكن في ذاته مفتقر إلى الغير ومتعلّق به؛ سواء كان موجوداً في الخارج أم لا. وإذا كان الأمر كذلك، فلا فرق حينئذٍ بين الحدوث والبقاء في الحاجة إلى العلة؛ فإنّ سرّ الحاجة وهو إمكان الوجود لا ينفكّ عنه باعتبار أنّ الممكن عين الافتقار لا شيء له الفقر.
نعم، قد تختلف علّة حدوث الممكن عن علّة بقائه، ولكن احتياجه إلى علّة لا يختلف ولا يتخلّف.
ومن هنا يتّضح لك الجواب على ما قد يقال بالنسبة إلى مثل البناء الذي يبقى رغم انفكاك علة حدوثه عنه من البنّائين والآلات المستعملة في بنائه؛ فإنّ العلّة التي أحدثته وإن انفكّت عنه، لكن تبقى علّة بقائه وهي تلك الخصائص الموجودة في مواد البناء والتي تبقيه متماسكاً حتى بعد ذهاب علة الحدوث. وقد اتضح ممّا ذكرناه أنّ هذا التفصيل من المحقق الخونساري بعد اعترافه بعدم إمكان اجتماع المقتضيين لهو أمر عجيب.
والخلاصة: إنّ عدم أحد الضدين ليس مقدّمة للضد الآخر مطلقاً؛ أي سواء كان الضد موجوداً أم لا.
الدليل الثاني: قال صاحب الكفاية R: «وأما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود، في الحكم، فغايته أن لا يكون أحدهما فعلاً محكوماً بغير ما حكم به الآخر، لا أن يكون محكوماً بحكمه. وعدم خلو الواقعة عن الحكم، فهو إنّما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي، فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضاً، بل على ما هو عليه، لولا الابتلاء بالمضادة للواجب الفعلي، من الحكم الواقعي».
حاصل الدليل الثاني على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص، هو أنّهما متلازمان وجوداً، فيكونان متلازمين حكماً، فعدم الصلاة ملازم وجوداً للإزالة، والتلازم بينهما وجداني، فيكون وجوب الإزالة ملازم أيضاً لوجوب ترك الصلاة، وإذا كان تركها واجباً، ففعلها يكون منهياً عنه، فيكون الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص.
الجواب: صحيح أنّ الإزالة وعدم الصلاة متلازمان وجوداً، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكونا متلازمين حكماً؛ لأنّ الأحكام تابعة لملاكاتها، ولا ملاك في وجوب عدم الضد الخاص.
وتوضيحه: جاء في خبر محمد بن مسلم عن أحدهما J: «قال: سألته عن القبلة؟ قال: ضع الجدي في قفاك وصلِّ»( )؛ فإنّ استدبار الجدي بالنسبة لأهل العراق المنظور إليهم في الرواية؛ باعتبار أنّ ابن مسلمW من أهل الكوفة، وإن كان لازماً لاستقبال القبلة إلى جهة الجنوب الغربي، إلا أنّ وجوب الاستقبال لا يلزمه وجوب الاستدبار؛ إذ لا ملاك فيه، كل ما في الأمر أنّه ملازم للاستقبال على ما تقدم، وهذه الملازمة هي التي تجعل تحريم الاستدبار فعلاً أمراً مستحيلاً، وإلا لزم التكليف بما لا يطاق؛ إذ يمتنع امتثال استقبال الجنوب مع حرمة استدبار الشمال حرمة فعلية.
إن قلتَ: لمّا كان لكلّ واقعة حكم وقد نفينا الملازمة في الحكم بين المتلازمين وجوداً، وقد امتنع أيضاً تعلق الحرمة باستدبار الشمال حتى لا يلزم التكليف بما لا يطاق، فما حكم استدبار الشمال حينئذٍ في المثال المفروض؟
|