ثمّ إنّ السيد أبا القاسم الخوئي R جعل دليل صاحب الكفاية على اتحاد الرتبة بين عدم أحد الضدين ووجود الضد الآخر شيئاً ثانياً لا يرجع إلى الملاءمة بينهما ولا إلى قياس المساواة، وهو أنّ الضدين كما أنّهما لا يجتمعان على موضوع واحد في آنٍ واحد، كذلك لا يجتمعان في رتبة واحدة؛ فالصلاة كما أنّها لا تجتمع مع الإزالة في الوجود، كذلك لا تجتمع معها في الرتبة، فإذا استحال اجتماعهما في رتبة واحدة، كان عدم الصلاة في تلك الرتبة ضرورياً، وإلا لزم ارتفاع النقيضين عن تلك الرتبة، وهو محال.
والخلاصة: إنّه لو لم يجتمع أيٌّ من الصلاة وعدمها مع الإزالة في رتبة واحدة، للزم ارتفاع النقيضين وهما الصلاة وعدمها في تلك الرتبة، وهو محال.
ثمّ أشكل السيد الخوئي على ما فهمه من كلام صاحب الكفاية بأنّه لا يشترط في استحالة اجتماع الضدين أو النقيضين أن تكون مع وحدة الرتبة، بل يستحيل اجتماعهما ولو مع عدم تعدد الرتبة؛ وذلك لأنّ استحالة اجتماع الضدين إنّما هي في الوجود الخارجي، لا في الرتَب العقلية حتى يقال: لو لم يتّحدا للزم ارتفاع النقيضين، وهما الصلاة وعدمها، في رتبة الإزالة.
وبناءً عليه، يمكن أن يكون عدم أحد الضدين متقدماً رتبة على الضد الآخر.
هذه خلاصة ما ذكره السيد الخوئي في إشكاله على صاحب الكفاية، إلا أنّه لم يذكر وجه إمكان تقدم عدم أحد الضدين على الضد الآخر رتبة، اللهم إلا أن يقال: إنّ وجه تقدمه هو أنّ عدم أحد الضدين سبب لوجود الضد الآخر، فتكون هذه السببية هي الملاك في التقدم.
وفيه: أنّ هذا الإشكال لا بأس به في نفسه، إلا أنّ عبارة صاحب الكفاية لا يظهر منها أنّ الوجه في الاتحاد رتبة هو ما ذكره السيد أبو القاسم الخوئي، بل هي ظاهرة في واحد من اثنين: إمّا أنّ اشتراط اتحاد رتبة عدم أحد الضدين مع الضد الآخر من باب الملاءمة، أو من باب قياس المساواة.
الإشكال الثاني: (الدور)
قال صاحب الكفاية R: «كيف؟ ولو اقتضى التضاد توقف وجود الشيء على عدم ضده، توقف الشيء على عدم مانعه، لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشيء توقف عدم الشيء على مانعه، بداهية ثبوت المانعية في الطرفين، وكون المطاردة من الجانبين، وهو دور واضح».
حاصل هذا الإشكال: إنّه لو كان عدم أحد الضدين مقدّمة للضد الآخر، للزم الدور، وهو باطل، فالملزوم مثله.
وتوضيحه: إنّه بعد فرض المانعية من جهة الضدين، وهما الصلاة والإزالة مثلاً، فيكون وجود أحد الضدين، وهو الإزالة مثلاً، متوقفاً على عدم الضد الآخر؛ أي على عدم الصلاة مثلاً، ولكن عدم الصلاة متوقّف أيضاً على الإزالة؛ اقتضاءً للتمانع من الطرفين، فيلزم توقّف الإزالة على نفسه، وهو دور.
بيانه: أمّا توقف الإزالة على عدم الصلاة فهو واضح؛ إذ لا يمكن أن توجد الإزالة مع وجود الصلاة، وأمّا توقف عدم الصلاة على الإزالة؛ فلأنّه لو لم تكن الإزالة، لوجدت الصلاة، فالمانع من وجودها هو وجود الإزالة، فيكون عدم الصلاة متوقفاً على الإزالة.
ردود على إشكال الدور:
هذا هو حاصل إشكال الدور، وقد رُدَّ عليه بعدة ردود، أفضلها للمحقق الخونساري R؛ حيث قال عنه صاحب الكفاية R: «وما قيل في التفصي عن هذا الدور بأن التوقف من طرف الوجود فعلي، بخلاف التوقف من طرف العدم، فإنّه يتوقف على فرض ثبوت المقتضي له، مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضده، ولعله كان محالاً، لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدين مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الإرادة الأزلية به، وتعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة، فيكون العدم دائماً مستنداً إلى عدم المقتضي، فلا يكاد يكون مستنداً إلى وجود المانع، كي يلزم الدور».
والمتفصي هو المحقق الخونساري R، وحاصله مع توضيح منا:
أوّلاً: إنّ العلة التامة مركّبة كما ذكرنا من ثلاثة أجزاء تختلف دخالتها في حدوث المعلول، فالمقتضي هو الذي يصدر عنه الأثر، والشرط هو المصحِّح لصدور الأثر، وعدم المانع هو عدم المزاحم للمقتضي من أن يؤثّر أثره؛ كالنار فإنّها المقتضي لإحراق الحطب وملاصقته لها، وهو الشرط، وعدم الرطوبة هو عدم المانع للنار من أن تحرق الحطب.
ثانياً: إنّ أجزاء العلة ليست في رتبة واحدة، بل المقتضي متقدّم رتبة على الشرط وعدم المانع، والشرط متقدّم رتبة على عدم المانع. وعليه، فلا يصحّ إسناد المانعيّة إلى شيء بحال فقدان المقتضي أو الشرط؛ فقبل وجود النار لا يصح إسناد المانعية من الاحتراق إلى الرطوبة، بل يقال: إنّ عدم الاحتراق مستند إلى عدم وجود المقتضي، وهو النار.
والخلاصة: إنّه يستحيل اتصاف المانع بالمانعية إلا في ظرف وجود المقتضي مع سائر الشرائط، كما أنّه يستحيل اتصاف الشرط بالشرطية إلا فيما إذا كان المقتضي موجوداً. وعليه، فالرطوبة في الجسم القابل للاحتراق لا تتّصف بالمانعية إلا في ظرف وجود النار ومماستها مع ذلك الجسم ليكون عدم الاحتراق مستنداً إلى وجود المانع، وأمّا إذا لم تكن النار موجودة، أو كانت ولم تكن مماسة مع ذلك الجسم، فلا يمكن أن يستند عدم الاحتراق إلى وجود النار.
وبناءً عليه، فصحيح أنّ الإزالة متوقّفة على عدم الصلاة، وعدم الصلاة متوقف على الإزالة، إلا أنّ التوقف في الأوّل فعلي، وفي الثاني تقديري، ومع اختلاف جهة التوقف يرتفع إشكال الدور.
وتوضيحه: إنّ المقتضي للصلاة والإزالة هو إرادتهما، وشرطهما هو قدرة المكلف عليهما، وعدم المانع من كلّ منهما هو عدم الصلاة بالنسبة للإزالة وعدم الإزالة بالنسبة للصلاة. فلمّا أراد المكلّف الإزالة وهو قادر عليها، تحقق المقتضي والشرط بالنسبة لها، وتوقفت على عدم الصلاة فعلاً، وأمّا كون عدم الصلاة متوقفاً على الإزالة تقديراً؛ فلأنّه لمّا لم يكن بالإمكان أن يريد الصلاة فعلاً أيضاً؛ لاستحالة اجتماع إرادة الصلاة والإزالة معاً؛ لأنّ مقتضي المحال محال، وبعبارة أخرى: إنّ المضادة والمنافرة بين الضدين تستلزم المضادة والمنافرة بين مقتضيهما؛ فكما يستحيل اجتماع الضدين في الخارج، فكذلك يستحيل اجتماع مقتضيهما فيه؛ لأنّ اقتضاء المحال محال. وعليه، لمّا لم يكن بالإمكان أن يريد الصلاة فعلاً، لم يصحّ اتصاف عدم الصلاة بعدم المانع لكي يقال: إنّ عدم الصلاة متوقف على الإزالة فعلاً، بل عدم الصلاة إنّما هو لأجل عدم المقتضي، وهو الإرادة، لا لأجل المانع، وهو الإزالة؛ لما عرفت من أنّ المانع لا يكون مانعاً إلا في ظرف وجود المقتضي والشرط، نعم يمكن أن يقال: لو كان المقتضي والشرط موجودين، لكان المانع من عدم الصلاة هو الإزالة، وعليه، فصحّ اتصاف عدمها بعدم المانع ولكن تقديراً.
فتصبح النتيجة: أنّ الإزالة متوقفة على عدم الصلاة فعلاً، بينما عدم الصلاة متوقفة على الإزالة تقديراً؛ أي على تقدير إرادة الصلاة.
|