أجاب السيد بأنّ مناط تحقق الاندكاك الاتحاد الزماني بين المندكّين لا الاتحاد الرتبي؛ ذلك أنّ الرتب العقلية لا أثر لها في الأحكام الشرعية، ولا إشكال في الاتحاد الزماني بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري المترشّح عنه.
وفيه: أنّ ما مثَّل به السيد بالنسبة لصلاة الظهرين ليس في محلّه؛ لأنّه ليس من باب اجتماع المثلين أصلاً حتى نتطرق إلى مسألة الاندكاك؛ فإنّ مناط اجتماع المثلين أن يكون متعلّق الحكمين واحداً؛ كما بالنسبة إلى مثال النذر المتقدم؛ فإنّ الاستحباب تعلق بصلاة الليل بما هي، وكذلك الوجوب الآتي من جهة النذر؛ إذ لا يمكن أن يتعلّق الوجوب بصلاة الليل بما هي مستحبة؛ لأنّه إن تعلق بها كذلك، فإنّها تصبح بعد التعلق واجبة، فيمتنع وفاء النذر. وعليه، فبما أنّ متعلق الحكمين واحد، وهو صلاة الليل بما هي، فيندكّ أحدهما بالآخر مكتسباً كل منهما خصوصية من الآخر؛ حيث يكتسب الاستحباب الإلزام من وجوب الوفاء بالنذر، ويكتسب وجوب الوفاء الذي هو توصّلي بنفسه العبادية من الاستحباب.
أمّا في صلاة الظهرين، فالمتعلق مختلف؛ إذ تعلق الوجوب النفسي بصلاة الظهر بما هي، بينما تعلّق الوجوب الغيري بصلاة الظهر بما هي مأمور بها ومتعبّد بها؛ فإنّ وجود صلاة العصر متوقف على إتيان صلاة الظهر قربة إلى الله تعالى. وعليه، فمع اختلاف المتعلق لا يكون الأمر من قبيل اجتماع المثلين، فلا اندكاك.
نعم، ما ذكره السيد من كفاية الاتحاد الزماني بين المندكين وإن اختلفا رتبة في محلّه؛ كمسألة النذر، فإنّ الأمر بالوفاء بالنذر متأخر رتبة عن الأمر باستحباب صلاة الليل؛ لأنّ الأمر بالوفاء بالنذر متوقف على رجحان متعلقه؛ إذ لا بدّ أن يكون راجحاً، ورجحانه جاء من الأمر الاستحبابي.
الخلاصة: إنّ المقدمة الداخلية بالمعنى الأخص خارجة عن محلّ النــــزاع. والذي يهوّن الخطب في المقام، أنّه لا يوجد مقتضٍ أصلاً للوجوب الغيري بالنسبة للأجزاء.
المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم والأخص:
قال صاحب الكفاية R: «هذا كله في المقدمة الداخلية، وأمّا المقدمة الخارجية، فهي ما كان خارجاً عن المأمور به، وكان له دخل في تحققه، لا يكاد يتحقق بدونه، وقد ذكر لها أقسام، وأطيل الكلام في تحديدها بالنقض والإبرام، إلا أنّه غير مهم في المقام».
أمّا المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم والتي يعبّر عنها أيضاً بالمقدمة الداخلية بالمعنى الأعم؛ مثل الشرط، فهي داخلة في محلّ النزاع لاختلافها خارجاً عن أجزاء المأمور به، وبالنتيجة لها وجود مستقل عن المأمور به.
أمّا المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص، فإن كانت معدّة فهي داخلة حتماً في محلّ النزاع؛ لأنّها مغايرة لذي المقدمة؛ كالدرجة الأولى في السلّم بالنسبة للكون على السطح. وإن كانت علّة تامة، فقد يقال أنّها ليست على إطلاقها داخلة في محلّ النزاع.
وتوضيحه: قلنا سابقاً أنّ كل ما يمكن أن تتعلّق به إرادة الفاعل تتعلق به إرادة الآمر، وكلّ ما لا يمكن أن تتعلق به إرادة الفاعل لا تتعلّق به إرادة الآمر، وإرادة الإنسان تتعلق بالعلة لأنّها مقدورة، ولا تتعلق بالمعلول لأنّه غير مقدور؛ إذ هو مترشّح من العلة، ووجود المقدمة علة لوجود ذيها، وعليه فتتعلّق إرادة الآمر بها دون ذيها.
ومن هنا، تكون المقدّمة مأموراً بها بالأمر النفسي فقط، ولا تكون مأموراً بها بالأمر الغيري؛ لأنّ الأمر الغيري بها يترشح عن الأمر النفسي بذي المقدمة، ووجود ذي المقدمة معلول لوجود المقدمة، ولا تتعلّق به إرادة الآمر؛ لأنّه غير مقدور، فكيف يترشّح منه الوجوب الغيري للمقدمة.
وفيه: صحيح أنّ الإنسان لا يقدر على المعلول مباشرة، إلا أنّه يقدر عليه بواسطة علته، وهذا كافٍ لإمكانية تعلق إرادة الآمر بها.
نعم، يبقى المناط في اتصاف الشيء بالوجوب الغيري وهو أن يكون وجوده خارجاً مغايراً لوجود ذي المقدمة، أمّا لو كانا في الخارج واحداً، فلا يدخل في محلّ النزاع وإن كان ذا عناوين متعدّدة؛ كما بالنسبة إلى الإلقاء والإحراق، أو الغسل والتطهير، فإنّهما في الخارج شيء واحد، ولذا صحّ حمل أحدهما على الآخر. نعم، عنوان الإحراق متولّد من الإلقاء، كما أنّ عنوان التطهير متولّد من الغسل. ومن هنا لا يصحّ التعبير عن الإحراق والتطهير بأنّهما مسبَّبان توليديّان عن الإلقاء والغسل، نعم هما عنوانان متولّدان عنهما.
وحاصل الفرق بين العنوان التوليدي والمسبّب التوليدي، هو أنّ العنوان التوليدي كالإحراق في المثال المتقدم لا يغاير العنوان الأوّلي خارجاً، وهو الإلقاء، بل هما في الخارج شيء واحد. وهذا بخلاف المسبّب التوليدي، فإنّه يختلف خارجاً عن السبب، وله وجود مستقلّ؛ كالإحراق والاحتراق، فإنّ الإحراق سبب لاحتراق الثوب، وهو مغاير له خارجاً، وكطلوع الشمس بالنسبة لضوء النهار؛ فإنّ الطلوع سبب، وضَوء النهار مسبّب عنه، وهو ممتاز عنه خارجاً.
الخلاصة: إنّ المقدمة الخارجية بالمعنى الأخصّ الداخلة في محلّ النزاع، هي ما كان وجودها خارجاً مغايراً لوجود ذيها، سواء كانت من قبيل المعد أم العلة التامة.
يبقى أن نشير إلى معنى كلّ من السبب والمقتضي والشرط والمانع.
أمّا السبب: (فهو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم)؛ كالصيغة المركبة من الإيجاب والقبول في البيع مثلاً، فإنّها سبب في تحقق الملكية؛ إذ يلزم من وجود الإيجاب والقبول مع باقي الشرائط وجود الملكية، ويلزم من عدمها عدم الملكية.
وأمّا المقتضي: (فهو ما يكون منه الأثر)؛ كالنار، فإنّها تقتضي الإحراق. وقد يطلق المقتضي على السبب أيضاً.
وأمّا الشرط: (فهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود)؛ كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، فإنّها شرط في صحتها؛ إذ يلزم من عدم الطهارة عدم الصلاة، ولا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة.
وأمّا المانع: (فهو ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه العدم)؛ كالرطوبة بالنسبة إلى الإحراق، فإنّها مانع من حصوله؛ إذ يلزم من وجود الرطوبة عدم الإحراق، ولا يلزم من عدم الرطوبة عدم شيء.
وأمّا النقض والإبرام على هذه التعاريف، فليس بالأمر المهمّ بعد وضوح المقصود، والله العالم.
|