توضيح عدم إجزاء الأصول العملية:
إنّ الأمر الظاهري لا يغيّر في الواقع شيئاً، كلّ ما هنالك أنَّ المكلف يكون معذوراً بحال عمل على طبقه وانكشف له أنَّه مخالف للواقع، وإلا فإنَّ الأمر الظاهري لا يحمل حكماً غير الحكم الواقعي. وعليه، فلا منافاة بينهما؛ لأنَّ الأحكام الشرعية أمور اعتبارية، فلا تنافي بينها في نفسها، إذ التنافي بين الأمور الحقيقية التكوينية.
وإنَّما جاءت المنافاة بين الأحكام الواقعية من خلال المبدأ والمنتهى. أمّا من حيث المبدأ؛ فلأنَّ الأحكام الواقعية تابعة للمصالح والمفاسد القائمة بمتعلّقاتها، وعليه لا يمكن أن يوجب المولى شيئاً وجوباً ملزماً، وينهى عنه نهياً ملزماً أيضاً؛ لوقوع التنافي بين الحكمين من حيث المبدأ؛ إذ الوجوب تابع للمصلحة الملزمة بمتعلقه، والحرمة تابعة للمفسدة الملزمة بمتعلّقها، والواجب محبوب، والحرام مبغوض، فلا يجتمعان.
وأمّا من حيث المنتهى؛ لأنَّ وراء الوجوب بعث وتحريك، ومن وراء النهي زجر، وهما لا يجتمعان أيضاً.
هذا بالنسبة للتنافي بين الأحكام الواقعية فيما بينها. أمّا الأحكام الظاهرية، فلا تنافي بينها وبين الأحكام الواقعية مطلقاً؛ أمّا في نفسها، فلا تنافي لأنَّ كلاً من الأحكام الواقعية والظاهرية أمور اعتبارية، ولا تنافي بين الاعتباريات كما تقدم.
وأمّا من حيث المبدأ، فلأنّ المصلحة في الأحكام الواقعية قائمة بمتعلقاتها، بينما المصلحة في الأحكام الظاهرية قائمة في نفسها، فلا يقع التنافي بينهما؛ إذ المصلحة في البراءة هي التوسعة والتسهيل على المكلفين، وكذا أصالة الطهارة والحلية الظاهريتين.
وأمّا من حيث المنتهى، فلأنّ البعث والتحريك في الأحكام الواقعية لا يجتمعان مع ما ينافيهما في الأحكام الظاهرية؛ إذ تحقق البعث والتحريك الواقعيين منوط بوصول الأحكام الواقعية إلينا، ومع فرض ذلك لا مسرح للأحكام الظاهرية ليقع التنافي بعد أن كان موضوعها الشك في الأحكام الواقعية، ومع عدم وصولها لا تكون باعثة ومحرّكة نحو المراد، بل يكون العمل على طبق الأحكام الظاهرية غير المزاحمة بشيء.
وبناءً على ما تقدم، إذا قام الأصل العملي على شيء، كما لو قام على طهارة الماء المشكوك النجاسة، فتوضأت به وصلّيت، ثمَّ جاءت بيّنة شهدت بنجاسته، فانكشف بطلان وضوئي وصلاتي، فتجب إعادتهما، ولا يجزي العمل على طبق الأصل العملي عن المأمور به بالأمر الواقعي؛ إذ الأصل العملي لا يغيّر في الواقع شيئاً، كلّ ما هناك أنَّه واجد للطهارة الظاهرية، فهذا يجعلني معذوراً فحسب، وإلا فلا دليل على أنَّ المأتي به يجزي عن المأمور به؛ إذ الصحة منتزعة من انطباق المأتي به على المأمور به، والفساد منتزع من عدمه، وبما أنَّه هنا لم يحصل الانطباق فينتزع الفساد.
وعليه، لا فرق من حيث عدم الإجزاء بين الأمارات والأصول العملية.
التفصيل في الأمارات:
الإنصاف: أنَّه بناءً على القول بالسببية تجزي الأمارة، وبناءً على طريقيتها وكاشفيتها عن الواقع لا تكون مجزية لا في الوقت ولا خارجه، لا في العبادات، ولا في المعاملات؛ لما تقدم من أنَّها مجرّد كاشفة وطريق إلى الواقع، ولا تحمل حكماً غير الحكم الواقعي، وعليه فهي كاشفة عن الواقع كشفاً ناقصاً تمّمه الشارع تعبداً، فلا يكون مجزياً عن الواقع بحال انكشف عدم انطباق المأمور به على المأتي به.
أدلة إجزاء الأمارات بناء على الكاشفية:
استدلّ بعض الأعلام على إجزاء الأمارة بناءً على الكاشفية والطريقية بعدّة أدلّة:
الدليل الأوّل: إنَّ الأمارة الأولى حجّة إلى حين ورود الأمارة الثانية الأقوى التي ترفع حجية الأولى من حين ورودها فحسب، لا أنَّها تكشف عن عدم حجيتها من قبل.
وبالتالي، فإنَّ ارتفاع حكم الأمارة الأولى بارتفاع موضوعها، وليس بانكشاف خلافها، وهذا من قبيل ارتفاع حكم التقصير بارتفاع موضوعه، وهو السفر، كما لو وجب التقصير لتحقق السفر، إلا أنَّ المكلف لم يصلِّ حتى دخل بلده، فوجب عليه الإتمام لارتفاع موضوع التقصير.
وبالجملة، فإنَّه ما لم تصلِ الحجة الثانية إلى المكلف لا تكون مانعة عن اتصاف الحجة الأولى بالحجية؛ وذلك لفرض أنَّها قبل وصولها لم تكن حجة لتكون مانعة عن حجية الأولى ورافعة لها، فإذا وصلت الحجة الثانية كانت رافعة لحجية الأولى من حين وصولها.
وعليه، فالحجة الأولى حجة في وقتها، وقبل الظفر بالثانية، فلا بدّ من الالتزام بصحة الأعمال الماضية المطابقة مع الحجة الأولى، ولا موجب لإعادتها أو قضائها؛ لفرض أنَّها صادرة عن المكلف على طبق الحجة في ظرفها واقعاً.
|