المبحث السادس وقوع الأمر عقيب الحظر
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «المبحث السابع: إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب وضعاً أو إطلاقاً فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه على أقوال: نسب إلى المشهور ظهورها في الإباحة، وإلى بعض العامة ظهورها في الوجوب، وإلى بعض تبعيته لما قبل النهي، إن علِّق الأمر بزوال علة النهي، إلى غير ذلك».
هذا هو المبحث السادس، وترتيبه سابعاً لدى صاحب الكفاية، وحاصله: إنَّه وقع الخلاف بين الأعلام حول ظهور صيغة الأمر فيما إذا وقعت عقيب الحظر أو توهمه؛ حيث نسب إلى المشهور ظهورها في الإباحة، بينما نسب إلى بعض العامة ظهورها في الوجوب، كما نسب إلى البعض تبعيّة ظهورها إلى ما قبل النهي إن علِّق الأمر بزوال علّة النهي؛ فإن كان ما قبله رخصة فما بعده رخصة، وإن كان ما قبله وجوب فما بعده وجوب.
والإنصاف: أنَّ صيغة الأمر إذا جاءت عقيب الحظر أو في مقام توهّمه فهي تدلّ على الإباحة بمعنى عدم المنع عمّا مُنع عنه سابقاً الذي يجتمع مع الوجوب والندب والإباحة بالمعنى الأخصّ، وتعيين أحدها يحتاج إلى قرينة، سواء قلنا بأنَّ صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب بالوضع أم الإطلاق أم العقل؛ لأنَّ النهي هادمٌ لهذا الظهور بعد أن كان على الأقل صالحاً للقرينية الصارفة عن الوجوب، وبالتالي نحتاج إلى قرينة معيّنة للمراد من الصيغة. نعم، يمكن للقائل بأنّ دلالة الصيغة على الوجوب ليست بالظهور بل بأصالة الحقيقة تعبداً كما عن السيد مرتضى (رحمه الله) أن يتمسّك بالدلالة على الوجوب، وقد عرفت أنَّ الحق ظهورها في الوجوب بالعقل؛ إذ مقتضى العبودية الطاعة، ولمّا لم يكن ثمّة مؤمِّن من العقاب يوم القيامة وجب الامتثال ما لم يرد ترخيص.
وأمّا من ذهب إلى تبعية ظهور الصيغة إلى ما قبل النهي إن علَّق الأمر بزوال علّة النهي؛ مثلاً إن كان ما قبله وجوب فما بعده كذلك؛ كما في قوله تعالى : «فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ»([1])، فهو مردود بأنَّ الكلام في دلالة صيغة الأمر بحدّ ذاتها، والحال أنَّ استفادة وجوب قتال المشركين عقيب النهي عن قتالهم في أشهر الحرم استفيد من قرينة خارجية، وهي العموم الأزماني في الآيات والروايات التي دلّت على استمرارية وجوب قتالهم.
وكذلك الأمر بالنسبة لمن ذهب إلى أنَّه إن كان متعلق الأمر عبادياً فيكون ظاهراً في الاستحباب إن وقع عقيب الحظر وفي مقام توهّمه، فإنَّ هذا الكلام مقبول، إلا أنَّه خارج عن محل الكلام؛ إذ الكلام في دلالة الصيغة بنفسها، والحال أنَّ الإستحباب استفيد من قرينة خارجية، وهي كون متعلّق الأمر راجحاً ومحبوباً للمولى.
هذا بالنسبة إلى وقوع الأمر عقيب النهي أو في مقام توهّمه، وكان متعلّق الأمر بعينه هو المتعلق للنهي؛ كما في قولك: (لا تكرم الفقراء)، وقولك بعد ذلك: (أكرم الفقراء)، أمّا مع اختلاف متعلّق الأمر والنهي من جهة العموم والخصوص، فيكون حينئذٍ خارجاً عن موضوع النـزاع؛ كما في قولك: (لا تكرم الفقراء)، وقولك بعد ذلك: (أكرم العدول منهم)، فإنّه في مثله لا بدّ من التخصيص الكاشف عن عدم تعلّق النهي بالخاص من أوَّل الأمر.
ثمَّ إنَّه ممّا ذكرنا يتضح لك حال النهي الواقع عقيب الوجوب أو توهّمه؛ حيث نقول فيه أيضاً بعدم ظهوره لا في الحرمة ولا في الكراهة، والله العالم.
المبحث السابع المرّة والتكرار
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «المبحث الثامن: الحق أنَّ صيغة الأمر مطلقا، لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فإنَّ المنصرف عنها، ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها، فلا دلالة لها على أحدهما، لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة، فإنما هو لحصول الامتثال بها في الأمر بالطبيعة، كما لا يخفى».
هذا هو المبحث السابع، وترتيبه ثامناً لدى صاحب الكفاية، وحاصله: إنَّه إذا ورد أمر ما من الشارع، فهل يدلّ بذاته على المرة أم التكرار؟
ذهب المشهور من الأعلام ومنهم صاحب الكفاية، كما هو الإنصاف، إلى أنَّ الأمر بحد ذاته لا يدلّ على أي منهما؛ كما في قولك: (صلِّ) يوجد هيئة ومادة، أمّا الهيئة فهي عبارة عن نسبة إيقاعية إيجاديّة بين المبدأ والمخاطب، فلا دلالة لها على المرّة أو التكرار ولا غيرهما من الخصوصيات التي تذكر. وأمّا المادة (الصلاة)، فقد ذكرنا أنَّها موضوعة للماهية المهملة المعرّاة عن جميع الخصوصيات، ومنها المرة والتكرار.
وإن قلتَ: كيف لا يدلّ الأمر على المرة والحال أنَّه يكتفى بفرد واحد من أفراده في مقام الامتثال؟!
قلتُ: إنَّ ما يُرى من الاكتفاء بالفرد الواحد إنَّما هو من جهة تحقق صرف الوجود بأوّل وجوده وتحقق الامتثال بذلك، لا من جهة أنَّ الأمر يقتضي المرة، كما لا يخفى. كما أنَّ تحقق الامتثال بإتيان أفراد عرضية دفعة إنَّما هو من جهة انطباق الطبيعي المأمور به على الجميع؛ كانطباقه في الأوّل على وجود واحد لا من جهة اقتضاء الأمر للتكرار.
وبالجملة، فإنَّ المطلوب من الأمر هو الطبيعة؛ أي صرف وجودها، وهو يتحقق بأوّل وجود، فانطباق الطبيعة على فردها قهري، والإجزاء عقلي.
([1]) سورة التوبة، الآية: 5.
|