أقول: اعلم أنَّه يلحق كلّ من الموضوع والمتعلق انقسامات أوّلية وثانوية؛ أمّا الأوّلية: فهي التي تعرض قبل مجيء الحكم، بينما تعرض الثانوية بعده.
والانقسامات الأوّلية للمتعلق (الصلاة) مثلاً، فهي من قبيل الصلاة مع طهارة والصلاة بدونها، والصلاة مع ستر وبدونه، والصلاة مع استقبال القبلة وبدونها، وهكذا، فإنَّ هذه القيود كلّها تعرض على الصلاة قبل مجيء الحكم.
والانقسامات الأوّلية للموضوع: فهي من قبيل المكلّف القادر وغير القادر، والمكلف المختار وغير المختار، وهكذا، فإنَّ هذه القيوم كلها تعرض على المكلف قبل مجيء الحكم.
أمّا الانقسامات الثانوية: فهي بالنسبة إلى المتعلق من قبيل الصلاة بقصد امتثال الأمر وبدونه؛ فإنَّ قصد امتثال الأمر متأخّر عن الأمر. والانقسامات الثانوية للموضوع: فهي من قبيل المكلّف العالم بالحكم وغير العالم به؛ فإنَّ العِلم بالحكم متأخّر عن الحكم.
إذا عرفت ذلك، فنقول: لا إشكال في أنَّ المتعلق والموضوع بالنسبة إلى الانقسامات الأوّلية تارةً يكونان مطلقين، وأخرى مقيّدين، بل لا بدّ من أحدهما؛ لأنَّهما قبل عروض الحكم عليهما في عالم الثبوت، ولا يمكن الإهمال في هذا العالم؛ للزومه الجهل أو العجز على المولى سبحانه وتعالى ؛ فإنَّ المولى يلحظ قبل تشريع الحكم كلّ من الموضوع والمتعلق، فإن لاحظهما مع كلّ أقسامهما متساوي الأقدام، فيأمر بالواجب مطلقاً، وإن لاحظهما غير متساوي الأقدام، فيأمر به مقيَّداً؛ حيث يعبّر عن هذا التقييد بـــــ (التقييد اللحاظي).
أمّا الإهمال في عالم الإثبات والدلالة، فهو متعقَّل بل واقع، وذلك كما لو لم يكن الشارع في صدد بيان تمام مراده، فيكون الحكم مطلقاً أو مقيداً ثبوتاً وواقعاً، ولكنّه مهمل إثباتاً ودلالة؛ لأنَّ الشارع لا يريد كشف الواقع الإطلاقي أو التقييدي للمكلفين، وإنَّما يريد كشف أصل التشريع؛ كما في قوله تعالى : « وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ﴾([1])، هذه الآية تشير إلى أصل تشريع صلاة القصر، مهملة مقدار الضرب بالأرض، وحدوده، فهي مهملة من هذه الجهة.
هذا بالنسبة إلى الانقسامات الأوّلية، أمّا الانقسامات الثانوية بالنسبة للمتعلق، وهي محل بحثنا، فنسأل: إذا أمر الشارع بأمر، فشككنا هل هو تعبدي أُخِذ في متعلّقه قصد امتثال الأمر، أم توصلي؟ فما هو مقتضى الإطلاق؟
ذهب المشهور إلى أنَّه لا أصل لفظي نتمسك به لإثبات التوصلية؛ وذلك لعدم إمكان أخذ قصد الامتثال قيداً في متعلق الأمر، وإذا لم يمكن التقييد لم يمكن الإطلاق، فها هنا جهتان: الأولى: هل يمكن ثبوتاً أخذ قصد امتثال الأمر في المتعلق؟ والثانية: إذا امتنع التقييد، فهل يمتنع الإطلاق أيضا؟
أمّا الجهة الأولى، فقد ذهبت جماعة من الأعلام إلى عدم إمكان التقييد؛ حيث كانت لهم عدّة محاولات لإثبات ذلك:
محاولات إثبات استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلقه:
المحاولة الأولى: وهي لصاحب الكفاية (رحمه الله)؛ حيث قال بلزوم الدور بأخذ قصد الامثتال في المتعلق من جهة، ولزوم عدم إمكان الامتثال من جهة أخرى.
أمّا لزوم الدور، فتوضيحه: قبل أن يأمر المولى بشيء لا بدّ أن يتصور متعلَّقه، فيكون المتعلَّق متقدماً على الأمر رتبة. ثمَّ إنَّ الأمر متقدم على قصد امتثاله، فيكون قصد الامتثال متأخّر عن المتعلق بمرتبتين؛ حيث يتوسطهما الأمر.
وعليه، إذا قيّدنا المتعلق بقصد الامتثال، فكان القصد جزءاً من المتعلق، فيصير القصد متقدماً على الأمر باعتباره جزءاً من المتعلق المتقدم على الأمر نفسه، ويصير القصد متأخراً أيضاً عن الأمر؛ باعتبار أنَّ قصد امتثال الأمر فرع الأمر، وبالتالي يلزم تقدّم القصد على الأمر وتأخّره عنه، وهو دور باطل.
أجاب صاحب الكفاية على هذا الإشكال بأنَّ المتعلق هو طبيعي الصلاة بداعي طبيعي الأمر، وهذا المتعلق غير متوقف على الأمر الخارجي الشخصي، وإنَّما الذي يتوقف عليه هو تحقق الداعي خارجاً، إلا أنَّ الأمر لم يتعلّق به، بل تعلّق بطبيعة الصلاة بداعي طبيعي الأمر، فينتفي الدور، وهو الحقّ؛ لما ذهبنا إليه من أنَّ الأوامر تتعلق بالطبائع بما هي حاكية عن مصاديقها لا بالمصاديق نفسها. هذا بالنسبة إلى إشكال الدور.
([1]) سورة النساء، الآية: 101.
|