ثمَّ إنّ اللازم هو ستر لون البشرة دون الحجم، إذ لا دليل على ستره، لعدم صدق عنوان النظر إلى العورة عليه.
وعليه، فلا بأس بلفّ العورة بساتر ملصق بها حاكٍ لحجمها،.
وممَّا يؤيِّد عدم وجوب ستر الحجم روايتان:
الأوَّلى: رواية عبيد الله المرافقي في حديث «أنَّه دخل حمَّاماً بالمدينةِ، فأخبرَه صاحبُ الحمّامِ أنّ أبا جعفر N كان يدخُلُه، فييبدأُ فيطلي عانتَه، وما يليها، ثمَّ يلفّ إزارَه على أطرافِ إِحْليله، ويدعوني، فأطلي سائر بدنه، فقلت له يوماً من الأيام: إنَّ الذي تكره أن أراه قد رأيته، قال: كلا، إنَّ النورة سِتْرة (ستره خ ل)»[i]f10، ولكنَّها ضعيفة بعبيد الله المرافقي، فإنّه مهمل، وبمحمّد بن زياد الأشجعي الواقع في طريق الصَّدوق R إلى المرافقي، فإنّه أيضاً مهمل، كما أنّ جعفر بن محمّد بن مسرور الواقع في الطريق غير موثّق.
أضف إلى ذلك: أنّ صاحب الحمّام غير معلوم فتكون مرسلة، مضافاً إلى أنّه من البعيد جدّاً أنّ الإمّام N كان يفعل ذلك، بل لا يفعل ذلك شخص عادي، فضلاً عن المعصوم N.
ومهما يكن، فهي إن صلحت فقد تصلح للتأييد فقط.
الرِّواية الثانية: مرسلة محمّد بن عمر عن بعض من حدّثه أنّ أبا جعفر N كان يقول: «مَنْ كان يُؤمِن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمّام إلاَّ بمئزر، قال: فدخل ذات يوم الحمام فتنوّر، فلما أطبقت النورة على بدنه ألقى المئزر، فقال له مولى له: بأبي أنت وأمي، إنّك لتوصينا بالمِئزر ولزومه، ولقد ألقيته عن نفسك، فقال: أمّا علمت أنّ النورة قد أطبقت العورة»[ii]f11، ولكنّها أيضاً ضعيفة بالإرسال، وبغيره أيضاً.
والخلاصة: أنّه لا يجب ستر الحجم.
ومن هنا قال المصنِّف في الذكرى: «لو كان الثوب رقيقاً يبدو منه الحجم، لا اللون، فالاكتفاء به أقوى، لأنّه يعدّ ساتراً...».
ثمَّ إنّه قد يُستدلّ لوجوب ستر الحجم بأمرَيْن:
الأوَّل: تبادره من أدلة وجوب الستر.
وفيه: أنّه لا يتبادر ستر الحجم من أدلَّة وجوب السّتر، كما لا يخفى.
الثاني: مرفوعة أحمد بن حمّاد إلى أبي عبد الله N «قال: لا تصلّ فيما شفّ، أو وصَف»[iii]f12، بناءً على ضبطه بواوَيْن كما هو المعروف بينهم، ومنهم المصنِّف في الذكرى، ومعنى وصف: أي حكى الحجم، وفي خطّ الشَّيخ R: «أو صفَّ بواو واحد».
وفيها أوّلاً: أنّها ضعيفة بالسيّاري، وبالرفع، وبعدم وثاقة أحمد بن حمّاد.
وثانياً: لو قطعنا النظر عن ضعف سندها، إلاَّ أنّها لا تدلّ على وجوب ستر الحجم، لأنّه من المعلوم أنَّ الحجم يُرى مع ستره بالجلد، ومع ذلك لا إشكال في كفاية السّتر بذلك عند الأعلام، والله العالم.
(1) اختلف الأعلام فيما يجب ستره من المرأة، ففي التذكرة والمختلف: «عورة المرأة الحرّة جميع بدنها إلاّ الوجه بإجماع علماء الأمصار»، وقال الشَّيخ R في الاقتصاد: «فأمّا المرأة الحرّة فإنّ جميعها عورة يجب عليها ستره في الصَّلاة، ولا تكشف غير الوجه فقط»، وكلامه يقتضي منع كشف غير الوجه من الكفَّيْن والقدمَيْن باطناً وظاهراً.
وحُكي عن العلاَّمة R في المنتهى: «بدن المرأة الحرة عورة، بلا خلاف بين كلّ مَنْ يُحفَظ عنه العلم»، ولعلّ عدم استثناء الوجه اعتماد على ما ذكره في طيّ كلامه من أنَّه لا يجب ستر الوجه في الصَّلاة.
وقال ابن الجنيد: «الذي يجب ستره من البدن العورتان، وهما القُبُل والدُّبُر من الرجل والمرأة، ثمَّ قال: ولا بأس أن تصلّي المرأة الحرّة وغيرها وهي مكشوفة الرأس، حيث لا يراها غير ذي مَحْرم لها».
أقول: يظهر من كلام ابن الجنيد R أنّ كلامه الأوَّلى مسوق لبيان ما يجب ستره عن الناظر المحترم، كما بيّنا ذلك في مبحث التخلّي، وأمّا هنا فخلافه إنّما هو في جواز كشف الرأس.
ثمَّ إنَّ دليل الشَّيخ في الاقتصاد على وجوب ستر الجميع هو أنّ بدن المرأة كله عورة.
ومن هنا قال الشَّيخ جعفر كاشف الغطاء R بعد أنّ ذكر أنّ مقتضى الإجماع والأخبار وجوب ستر ما سمّي عورة : «لا شكّ أنّ المرأة كلّها عورة، لغةً وعرفاً، أمّا لغةً فظاهر، وأمّا عرفاً فلأنّ المتعارف التعبير عنها بالعورة، وإطلاق هذه اللفظة عليها شائع ذائع، مع عدم صحَّة السلب، على أنَّه قد ثبت كونها عورة شرعاً من الأخبار، مثل أنّ النساء عيّ عورات، وغيره، والإجماع، فإنَّ الفقهاء قدِ اتفقت كلمتهم على أنّ المرأة كلّها عورة، ثمَّ يستثنون شيئاً منها...».
وفيه: ما لا يخفى، فإنَّ إطلاق العورة عليها لغةً وعرفاً لبعض الاعتبارات لا يصحِّح كونها مصداقاً حقيقيّاً لاسمها على الإطلاق، بل اطلاق العورة عليها مجاز.
وأمّا الإجماع على أن المرأة كلها عورة.
ففيه أوَّلاً: أنَّه غير ثابت.
ومن هنا قال في الرياض: «لا يأتي لنا القطع بكون المرأة بجملتها عورة من جهة الإجماع، لِمكان الخلاف».
وثانياً: أنَّه لا يعتدّ بهذا الإجماع لو فرض ثبوته، لِما عرفت.
وأمّا قوله: «قد ثبت كونها عورة شرعاً من الأخبار».
ففيه: أنَّ الذي عثرتُ عليه من الأخبار من طرقنا هي رواية مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله N «قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ N: لَا تَبْدَؤُوا النِّسَاءَ بِالسَّلَامِ، ولَا تَدْعُوهُنَّ إِلَى الطَّعَامِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ C قَالَ: النِّسَاءُ عَيٌّ(*)، وعَوْرَةٌ، فَاسْتُرُوا عِيَّهُنَّ بِالسُّكُوتِ، واسْتُرُوا عَوْرَاتِهِنَّ بِالْبُيُوتِ»[iv]f13، ولكنّها ضعيفة بمسعدة بن صدقة، فإنه غير موثق.
ثمَّ إنّه لا دليل على وجوب ستر المسمّى بالعورة في الصَّلاة، وعلى فرض وجوده فإنّه منصرف إلى العورة بالمعنى الأخص.
والخلاصة إلى هنا: أنّ ما ذهب إليه الشَّيخ في الاقتصاد، وكذا من وافقه من الأعلام، ليس بتامّ.
والإنصاف: أنّه لا إشكال، ولا خلاف في وجوب ستر بدن المرأة في الجملة، وتشهد له النصوص الكثيرة المتواترة:
منها: صحيحة زرارة «قال: سألتُ أبا جعفر N عن أدنى ما تُصلّي فيهِ المرأةُُ، قال: درعٌ، ومِلْحَفة، فتنشرها على رأسها، وتجلّل بها»[v]f14.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر «أنَّه سأل أخاه موسى بن جعفر N عن المرأة ليس لها إلاّ مِلْحَفة واحدة، كيف تصلّي؟ قال: تلتفّ فيها، وتغطي رأسها، وتصلّي، فإنْ خرجتْ رجلَها، وليس تَقْدرُ على غير ذلك، فلا بأس»[vi]f15.
ومنها: موثّقة ابن أبي يعفور «قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله N: تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: إِزَارٍ، ودِرْعٍ، وخِمَارٍ، ولَا يَضُرُّهَا بِأَنْ تُقَنِّعَ بِالْخِمَارِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَثَوْبَيْنِ: تَتَّزِرُ بِأَحَدِهِمَا، وتُقَنِّعُ بِالآخَرِ. قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ دِرْعٌ ومِلْحَفة، لَيْسَ عَلَيْهَا مِقْنَعَةٌ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ إِذَا تَقَنَّعَتْ بِالْمِلْحَفة، فَإِنْ لَمْ تَكْفِهَا فَلْتَلْبَسْهَا طُولاً»[vii]f16.
ومنها صحيحة جميل بن دراج «قال: سألت أبا عبد الله N عن المرأة تصلّي في درعٍ، وخمار؟ فقال: يكون عليها ملحفة تضمّها عليها»[viii]f17 إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.
وعليه، فلا إِشكال في وجوب ستر بدنها في الجملة
[i] الوسائل باب 18 من أبواب آداب الحمام ح1.
[ii] الوسائل باب 18 من أبواب آداب الحمام ح2.
[iii] الوسائل باب 21 من أبواب لباس المصلّي ح4.
(*) قال الزبيدي: «قالَ الجَوْهرِي: العِيُّ خِلافُ البَيانِ، وقد عَيَّ وعَيِيَ، فهو عيٌّ وعَيِيٌّ.
وقالَ الراغبُ: العيُّ عجزٌ يَلْحَقُ مَنْ توَلَّى الأمْرَ والكَلامَ» تاج العروس، ج19، ص716 ط دار الفكر بيروت.
[iv] الوسائل باب 131 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح1.
[v] الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلِّي ح9.
[vi] الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلِّي ح2.
[vii] الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلِّي ح8.
[viii] الوسائل باب 28 من أبواب لباس المصلِّي ح11.
|