الطريق الثامن: الوِجادة
وهي بكسر الواو، مصدر وجد يجد، مولد من غير العرب، غير مسموع من العرب الموثوق بعربيّتهم.
وذكر الشهيد الثاني رحمه الله في الرعاية: «إنّما ولده العلماء بلفظ الوِجادة: لما أخذ من العلم من صحيفة، من غير سماع، ولا إجازة ولا مناولة، حيث وجدوا العرب، قد فرّقوا بين مصادر (وجد)، للتمييز بين المعاني المختلفة... الخ»[1].
ثمّ إنّ الوِجادة، هي أن يجد الإنسان كتاباً معلوم الانتساب إلى صاحبه، وحديثاً بخط راويه غير معاصر له، أو معاصر له لم يلقه، أو لقيه ولكن لم يسمع منه هذا الواجد، ولا له منه إجازة، فله حينئذٍ أن يقول: وجدت أو قرأت بخط فلان، أو في كتاب فلان بخطّه حدّثنا فلان، ولا يصحّ أن يقول: حدّثني فلان أو قال فلان.
نعم، يصحّ أن يقول: قال: فلان في كتابه أو في أصله كذا وكذا.
ومهما يكن، فإنّ هذا الطريق هو المعمول عليه في الأزمنة المتأخّرة، بل الأمر منحصر فيه، لانقراض باقي الطرق تقريباً.
ثمّ لا يخفى عليك، أنّه لا إشكال بين الأعلام في منع الرواية بالوِجادة المجرّدة عن الإجازة والتحديث بها، لفقد الإخبار فيها، الذي هو المدار في صحّة الرواية عن شخص.
نعم، لو اقترنت بالإجازة، بأن كان الموجود خطه وهو حيّ فأجازه، أو أجازه غيره عنه ولو بوسائط، كما هو الحال في الأزمنة المتأخّرة، فلا إشكال حينئذٍ في جواز الرواية.
هذا، وقد وقع الخلاف بين المحدّثين والأصوليين في جواز العمل بالوِجادة الموثوق بها من دون إجازة.
وأمّا الوِجادة غير الموثوق بها، فلا إشكال في عدم جواز العمل بها، كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى.
ثمّ إنّه قد أشرنا إلى الخلاف في العمل بالوِجادة الموثوق بها، وهناك قولان:
أحدهما: الجواز، وهو المشهور بين الأعلام، كما أنّه المعروف عن الشافعي، وأصحابه.
ثانيهما: المنع، وهو المنسوب إلى المالكي وأصحابه.
وأمّا المجوّزون، فقد استدلّ لهم بعدّة أدلّة:
منها: ما دلّ على حجّية خبر الواحد، فإنّها تشمل بعمومها الأخبار المعمول بها بالوِجادة، ولا يصغَ للقول بمنع صدق الخبر على الوِجادة باعتبار أنّ الخبر هو القول، وليس القول إلاّ اللفظ، وليس شيء من الوِجادة بلفظ، بل هي مجرّد نقوش.
ووجه عدم الإصغاء، هو أنّ عمدة دليل حجّية الخبر هو بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة أو الموثوق به على خلاف بين الأعلام، وسيرتهم جارية على العمل بالخبر الكتبي، كجريانها في اللفظي.
ومنها: السيرة، فإنّها قد استقرّت في جميع الأعصار والأمصار على العمل بالوِجادة، وتراهم يعملون بها، ويرتّبون الآثار عليها من غير نكير، وعلى هذا جرت السيرة في عصر الأئمة عليهم السلام، فترى الإمام عليه السلام يكتب إليه الراوي بما يريد، ويكتب إليه الإمام عليه السلام بجوابه.
وبالجملة، لا إشكال في العمل بالمكاتبات، وهي كثيرة، وعلى ذلك جرت سيرة الناس المستمرّة في سائر الأعصار والأمصار، فإنّهم يتوصّلون إلى أغراضهم بالكتابات، كما يتوصّلون إليها بالألفاظ والخطابات الشفاهية.
وبالجملة، هناك تسالم على اعتبار النقوش والاعتماد عليها، ولكن مع الأمن من التزوير والوثوق بها. كما أنّ هناك تسالماً على اعتبار ظواهر الألفاظ والخطابات الشفاهية.
ومنها: ما يظهر من جملة من الأخبار عدم الحاجة إلى الإجازة في مقام العمل، ويكفي الأخذ بما في الكتب، ونذكر جملة من الروايات:
الأولى: ما رواه الكليني رحمه الله عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن بن أبي خالد شينوله قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام: «جعلت فداك إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام وكانت التقيّة شديدة، فكتموا كتبهم، فلم تروَ عنهم، فلمّا ماتوا صارت تلك الكتب إلينا، فقال: حدّثوا بها، فإنّها حق»[2].
وهي واضحة جداً، ولكنّها ضعيفة، لعدم وثاقة محمد بن الحسن بن أبي خالد شينوله.
الثانية: صحيحة أحمد بن عمر الحلاّل. قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: «الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول: إروه عنّي يجوز لي أن أرويه عنه؟ قال: فقال: إذا علمت أنّ الكتاب له فاروه عنه»[3].
وهي ظاهرة الدلالة، كما أنّها صحيحة كما تقدم، وذكرنا إسناد محمد بن يحيى إلى أحمد بن عمر الحلاّل.
[1] الرعاية في علم الدراية، ص297.
[2] الكافي ج1، باب رواية الكتب والحديث، ح15.
[3] الكافي ج1، باب رواية الكتب والحديث، ح6.
|