ثالثاً: ذكر بعض الأعلام، ومنهم السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله، أنّه لو سلّمنا كبروياً بأنّ الشيخ قد شهد بصحّة روايات كتابيه، ولكن يبقى الإشكال في المبنى الذي اعتمده لهذا التصحيح، فلعلّه اعتمد على مبنى نخالفه.
وبعبارة أخرى: حتّى نأخذ بهذه الشهادة المدّعاة لا بدَّ أوّلاً أن نحرز أن مناط التصحيح لديه مقبول لدينا، وهذا ما لا سبيل إليه.
ولكن الإنصاف: أنّ هذا الكلام في غير محلّه، إذ لو راجعنا كلام الشيخ في التهذيب والاستبصار والعدّة لوجدناه يصرّح باشتراط الوثاقة لقبول الرواية، وليس ممّن يكتفي بأصالة العدالة كما احتمله السيد الخوئي رحمه الله:
فيقول في الاستبصار: «واعلم أنّ الأخبار على ضربين: متواتر وغير متواتر... وما ليس بمتواتر على ضربين: فضرب منه يوجب العلم أيضاً... وأمّا القسم الآخر... فإنّ ذلك خبر واحد، ويجوز العمل به على شروط...»[1]، وذكر من ضمن الشروط العدالة.
وقال في العدة: «والذي أذهب إليه: أنّ خبر الواحد لا يوجب العلم، وإن كان يجوز أن ترد العبادة بالعمل به عقلاً، وقد ورد جواز العمل به في الشرع، إلاّ أنّ ذلك موقوف على طريق مخصوص، وهو ما يرويه من كان من الطائفة المحقّة، ويختصّ بروايته، ويكون على صفة يجوز معها قبول خبره من العدالة وغيرها»[2].
وقال في العدة أيضاً: «كما أنّه ليس لنا أن نتعدّى من رواية العدل إلى رواية الفاسق. وإن كان العقل مجوزاً لذلك، أُجمع على أنّ من شرط العمل بخبر الواحد أن يكون راويه عدلاً بلا خلاف»[3].
وقال: «فأمّا من كان مخطئاً في بعض الأفعال، أو فاسقاً بأفعال الجوارح، وكان ثقة في روايته متحرزاً فيها، فإنّ ذلك لا يوجب ردّ خبره، ويجوز العمل به، لأنّ العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه»[4].
وقال في التهذيب في ذيل رواية لابن أبي نجران: «إنّ هذا الخبر مرسل، لأنّ ابن أبي نجران قال عن رجل ولم يذكره، ويجوز أن يكون غير مأمون ولا موثوق به»[5].
إذاً، اتضح أنّ الشيخ الطوسي رحمه الله يشترط الوثاقة في تصحيح الرواية، ولا يعتمد على مبنى أصالة العدالة.
وعليه، فلولا أنّه لم تثبت شهادة الشيخ رحمه الله في تصحيح روايات التهذيبين، لقبلنا بها.
وأمّا دعوى البعض أنّ الشيخ يكتفي بالإيمان للتوثيق، أي إنّ مراده من الثقة كون الراوي إمامياً.
فهو في غير محلّه، بدليل قوله في العدّة: «وأمّا العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر فهو: أن يكون الراوي معتقداً للحق، مستبصراً، ثقة في دينه، متحرجاً من الكذب، غير متّهم فيما يرويه»[6].
هذا فيما يتعلّق بالدليل الأوّل الذي ذكره بعض الأعلام على تصحيح ما في التهذيبين.
وهناك دليل آخر ذكروه، وهو أنّ الشيخ الطوسي أخذ رواياته عن أصول مشهورة ومعروفة النسبة إلى أصحابها.
وبالتالي، لا نحتاج إلى نقاش سندها منه إلى أصحاب هذه الأصول، ونحكم بصحّة هذه الأحاديث كلّها إذا كان مصنّفو هذه الأصول وما فوقها من الرجال إلى المعصوم عليه السلام ثقات.
حيث يقول الأردبيلي رحمه الله في جامع الرواة: «الفائدة الخامسة: إعلم أنّ الشيخ الطوسي (قدس الله سره) صرّح في آخر التهذيب والاستبصار بأنّ هذه الأحاديث التي نقلناها من هذه الجماعة أخذت من كتبهم وأصولهم، والظاهر أنّ هذه الكتب والأصول كانت عنده معروفة، كالكافي والتهذيب وغيرهما عندنا في زماننا، هذا كما صرّح به الشيخ محمد بن علي بن بابويه رحمه الله في أوّل كتاب (من لا يحضره الفقيه)، فعلى هذا، لو قال قائل بصحّة هذه الأحاديث كلّها، وإن كان الطريق إلى هذه الكتب والأصول ضعيفاً، إذا كان مصنّفو هذه الكتب والأصول وما فوقها من الرجال إلى المعصوم عليه السلام ثقات لم يكن مجازفاً»[7].
والجواب: أوّلاً: أنّ الفارق بين الشيخ الصدوق والطوسي رحمهما الله، هو أنّ الأوّل رحمه الله قد صرّح بأنّه أخذ روايات الفقيه من أصول مشهروة عليها المعوّل، إلاّ أنّه لم يلتزم بأنّ من يبدأ به السند هو صاحب الأصل.
بينما الشيخ الطوسي رحمه الله التزم بذلك، إلاّ أنّه لم يذكر أنّه أخذ روايات كتابيه من أصول مشهورة.
ثانياً: إن سلّمنا بأنّ بعض هذه الأصول مشهورة حتماً، إلاّ أنّه لا يكفي، لفقد التمييز.
ثالثاً: إن سلّمنا بأنّ كلّ هذه الأصول مشهورة، إلاّ أنّه لا يقتضي القطع بجميع ما تضمّنته من الأخبار فرداً فرداً، لما يشاهد من اختلاف الكتب المتواترة في زيادة الأخبار ونقصانها، واختلاف الروايات الموجودة فيها بالزيادة والنقيصة.
ثمّ إنّ للسيد بحر العلوم جواب آخر، وهو أنّه لو كانت روايات التهذيبين موضع تسليم، لما ناقش المحققون في أسانيدهما؛ حيث قال: «وذهب جماعة من المتأخّرين إلى عدم الحاجة إلى الطريق فيما روي بصورة التعليق من أحاديث الكتب الثلاثة، لما قاله الصدوق رحمه الله في أوّل كتابه: (أنّ جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع...)، وما صرّح به الشيخ في (المشيخة): (أنّ ما أورده بحذف الإسناد إلى أصحاب الأصول والكتب قد أخذه من أصولهم وكتبهم، ففي التهذيب). ... واقتصرنا من إيراد الخبر على الابتداء بذكر المصنّف الذي أخذنا الخبر من كتابه، أو صاحب الأصل الذي أخذنا الحديث من أصله... وفي (الاستبصار) نحو ذلك.
وعلى هذا، فلا يضرّ الجهل بالطريق، ولا اشتماله على مجهول أو ضعيف، لأنّ الاعتماد على نقل الشيخين لهذه الأخبار من تلك الأصول والكتب، وقد كانت مشهورة معروفة في تلك الأعصار، متواترة النسبة إلى أصحابها عندهما، كاشتهار كتبهما وتواترها عندنا والوسائط بينهما وبينهم كالوسائط بيننا وبينهما، والجميع من مشائخ الإجازة، ولا يتوقف عليهم صحّة الحديث. ولأنّهم مع الذكر لا يقدح جهالتهم ولا ضعفهم، فمع الترك والتصريح بالمأخذ أولى. ولذا لم يتعرّض الشيخ في مقام الطعن في السند لرجال الواسطة، ولو كانوا من الرواة لتعرّض لهم في بعض الأحيان.
ويضعف هذا القول: إطباق المحقّقين من أصحابنا والمحصّلين منهم على اعتبار الواسطة والاعتناء بها، وضبط المشيخة وتحقيق الحال فيها والبحث عمّا يصحّ وما لا يصحّ منها، وقدحهم في السند بالاشتمال على ضعيف أو مجهول. وقد أوردها العلاّمة رحمه الله وابن داود في كتابيهما منوّعة إلى أنواع الحديث: من الصحيح، والحسن، والموثّق، والضعيف، مع بناء السند على هذا التنويع. ووافقهما على ذلك سائر علماء الرجال والحديث والاستدلال إلاّ من شذّ، ومقتضى كلام الشيخين في الكتب الثلاثة: أنّ الباعث على حذف الوسائط قصد الاختصار مع حصول الغرض بوضع المشيخة، لا عدم الحاجة إليها كما قيل وإلاّ لما احتيج إلى الاعتذار عن الترك، بل كان الذكر هو المحتاج إلى العذر، فإنّه تكلف أمر مستغنى عنه على هذا التقدير، وقد صرّح الشيخ في (مشيخة التهذيب): بأنّ إيراد الطريق لإخراج الأخبار بهما عن حدّ المراسيل وإلحاقها بالمسندات، ونصّ فيها وفي (مشيخة الاستبصار) على أنّ الوسائط المذكورة طرق يتوصّل بها إلى رواية الأصول والمصنفات.
وفي كلام الصدوق ما يشير إلى ذلك كلّه، فلا يستغنى عن الوسائط في أخبار تلك الكتب، ودعوى تواترها عند الشيخ والصدوق كتواتر كتبهما عندنا ممنوعة، بل غير مسموعة، كما يشهد به تتبّع الرجال والفهارست، والظنّ بتواترها مع عدم ثبوته لا يدخلها في المتواتر، فإنّه مشروط بالقطع، والقطع بتواتر البعض لا يجدي مع فقد التمييز. وكون الوسائط من شيوخ الإجازة فرع تواتر الكتب، ولم يثبت. وعدم تعرّض الشيخ رحمه الله لها في مقام التضعيف، وبما كان للاكتفاء بضعف غيرها، أو لثبوت الاعتماد عليها لغير التوثيق، أو لعدوله عمّا قاله في (الفهرست) و(الرجال) من الحكم بالضعف، فإنّ الشيخ قد يضعّف الرجل في موضع ويوثّقه في آخر. وآراؤه في هذا وغيره لا تكاد تنضبط.
على أنّا لو سلّمنا تواتر جميع الكتب، فذلك لا يقتضي القطع بجميع ما تضمّنته من الأخبار فرداً فرداً، لما يشاهد من اختلاف الكتب المتواترة في زيادة الأخبار ونقصانها، واختلاف الروايات الموردة فيها بالزيادة والنقيصة، والتغييرات الكثيرة في اللفظ والمعنى، فالحاجة إلى الواسطة ثابتة في خصوص الأخبار المنقولة بألفاظها المعيّنة، وإن كان أصل الكتاب متواتراً. وأيضاً فالاحتياج إلى الطريق إنّما يرتفع لو علم أخذ الحديث من كتاب من صدر الحديث باسمه»[8].
[2] عدة الأصول، ج1، ص100.
[3] عدة الأصول، ج1، ص129.
[4] عدة الأصول، ج1، ص152.
[5] تهذيب الأحكام، ج1، ص109، ذيل ح17 رقم 285.
[6] عدة الأصول، ج1، ص148.
[7] جامع الرواة، ج2، ص548.
[8] الفوائد الرجالية، ج4، ص76، 77، 78.
|